أتشرنق حول ذاتي وأنا أتأمل ما يدور أمامي من أحداث جسام، لا أجد في نفسي القدرة علي تحملها، مكتفيًا بمتابعة ثرثرة عبر الفضائيات، وسيل من تعليقات يتسم أغلبها بسذاجة أو بطفولية، إلي أن تناهت إلي أذنيّ دعوة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، التي تحذر من إراقة دم المصري، وتؤكد علي أهمية الحفاظ علي سلامة هذا الوطن. عشرات الأسئلة تتقافز حول كيفية تحقيق ما يرمي إليه الإمام الأكبر، وتسهم في الإجابة عنها هذه "الوصية" البديعة التي وجهها الأديب أشرف الخمايسي إلي ولده، فتهزني من فرط نفاذها إلي ما وراء هذا الواقع الأليم، وفيها يقول "يا بنيي، يا من سُررت به، تَسارع الزمان، وما كان يراه جدُّك فيي عقود، ويراه أبوك في سنين، ستراه أنت في أيام، "مصر" أمانة في عنقك، هذا النيل يجب أن يجري نقيٍا، لا تلوثه بدم أخيك، وهذه الحقول يجب أن تبقي خضراء، لا تلونها بحُمرة، وسماؤها الزرقاء لا تدهنها بكدرة، وصحراؤها الصفراء لا تنقشها بزخرف موت، ليبقي هادرًا عرق الفلاح وأنفاس الصُّناع، اعل بتراتيل المنشدين، وأغاني الحب، وإياك والإنصات لعواء القتَّالين، أبحِر يا ولدي في عيني عاشقة تهبك روحًا ملائكيًا، ودَع هزيم شيطان يُرعد نخيل بلادك، مصر يا ولدي قلب أمِّك، هل تفرط فيي قلب أمِّك؟! وصُلب أبيك، هل تنكر صُلب أبيك؟ وعضد أخيك، هل لست في عوز إلي عضد أخيك؟ يا ولدي صُن مصر تصُنك، فمن غيرها أنت هالك، فاسمع الآن أغلي ما سأنصحك به: يا ولدي الذي سُر به قلبي، إن رأيت أخوتك الذين رضعوا معك ماء النهر يختلفون علي مغنم يُقتطع من روح وطنك قل الحق، فإن لم يسمعوا، ورفعوا في وجوه بعضهم آلات الموت، الزم المنتصف، وإن استطعت أن تتلقي طعنات الجميع في صدرك لتكون الفداء فافعل، إن تعش مصر حييت، وإن تُجرح مصر يا ولدي قُتلت". يا سلام!!.. ما أجمل هذه الكلمات التي تستحضر في الذهن فورًا وصايا الفلاح الفصيح، وتترجم علاقة المصري القديم بنيله وهو يورث أبناءه ضرورة الحفاظ علي نقاء مياهه. ولعل أهم ما دعت إليه وصية "الخمايسي"، في هذا الظرف الحرج الذي تمر به البلاد، هو إيقاظها مشاعر الحب الكامنة في نفوس كل المصريين، التي جعلتهم يتحملون سويًا أشد المصاعب التي واجهتهم علي مر التاريخ، وتأكيدها علي أن مصر ستظل دومًا أمانة في أعناقنا وفي رقاب الأجيال القادمة، فهي "قلب" الأم، و"صلب" الأب، و"عضد" الشقيق، فيستحيل أن يستغني مصري عن شقيقه. فضلا عن الحرص علي نبذ التشاحن والبغضاء، والسعي إلي سمو الروح بإعلاء قيمة الإبداع الذي يصوغ وجدان المصري فيجعله يمقت كافة صور العنف والتصارع، وينحو إلي الإنصات إلي تراتيل السكينة والسلام. خرجت من شرنقتي عندما أحسست أن هناك أملا يلوح في الأفق، مبشرًا بغد يليق بمصر وبأبنائها أجمعين. لذا أضع هذا الأمل نصب أعين الشرفاء الذين يسعون الآن إلي كتابة صفحة مشرقة في تاريخ مصر، حتي لو تلقوا الطعنات في صدورهم فداء لمصر الخالدة.