كان الميزان يتصدر قاعة كل محكمة في مصر القديمة.. وقد نقل العالم كله.. عن مصر هذا الرمز للعدالة كان الشاعر اليوناني »سيمونيدس« يري ان هزيمة أمة لا تتحقق عن طريق غزوها، ولكن عند النجاح في جعلها تنسي تاريخها وحضارتها. وحين سألوا الفيلسوف الانجليزي »فرانسيس بيكون«: »كيف تتقدم اوربا؟، أجاب قائلا: ».. بأن يكون لها تاريخ«. ولما كان الدكتور »وسيم السيسي« يعرف اننا نملك اعظم تاريخ.. وبأن مصر لن يعود لها وجهها الحضاري، وتصبح رائدة من رواد العلوم والفنون إلا بالاطلاع علي تاريخها القديم.. فقد نشر كتابه الرائع »مصر علمت العالم«، لكي يتأكد لدي الجميع ان تاريخ البشرية كان ظلاما قبل تاريخ الحضارة المصرية القديمة.. التي هي أم الحضارات. أكثر ما يثير الحزن لدي المؤلف هو ان المصريين - أصحاب أعظم حضارة وتاريخ - انفردوا، بين كل شعوب العالم، باحتقار أجدادهم وتاريخهم.. كما لو كانوا يفعلون ذلك نزولا علي إرادة اعدائهم التاريخيين. عالم المصريات العظيم الانجليزي السير »وليام ماثيو فلاندرز بتري »الذي توفي عام 2491 - يقول: »ان مصر لم تكن مقبرة الغزاة بالمعني السياسي فحسب، بل بالمعني المادي ايضا، فغزوات الفرس واليونان والرومان والعرب والاكراد والشراكسة والاتراك.. كانت تذوب في جسم مصر الكبير.. والفتح العربي لم يكن تغييرا في مصرية مصر، بقدر ما كان تغييرا في الحكام فقط«. ويقول عالم المصريات »ستامب«: »ان المشكلة في الاستيلاء علي مصر ليست في غزوها، بل في الوصول إليها.. فمن النادر ان تجد شعبا متماثلا في ملامحه الجسيمة والنفسية، بل في مزاجه وتقاليده مثل الشعب المصري«. الدكتور وسيم السيسي ينادي المؤرخ المصري »مانيتون« - الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد- لكي يخاطبنا قائلا: »تعلموا الهيروغليفية، ترجموا تاريخكم.. لا تتركوه لعبة في أيدي المزورين والحاسدين، واذا اردتم ان تعرفوا أصل أي شيء.. فان عليكم بدراسة تاريخ مصر«. وها هو الامريكي »مارتن بارنال«، في كتابه »أثينا السوداء« يعلن ان الحضارة اليونانية كلها من أصل فرعوني.. ويؤكد الفيلسوف الاغريقي افلاطون -القرن الخامس قبل الميلاد- في كتابه »القوانين« قائلا: »ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه من مصر«. ويقول الدكتور طه حسين ان اليونانيين، في عصورهم الراقية، كما كانوا في عصورهم الأولي، يعتبرون انهم تلاميذ المصريين في الحضارة، وفي فنونها الرفيعة بوجه خاص. وثمة شهادة تاريخية علي لسان نابليون بونابرت: »لو كانت جيوشي من المصريين لأصبح العالم كله في قبضة يدي، قل لي من يحكم مصر.. أقل لك من يحكم العالم«. ويقول المؤرخ وعالم الآثار الامريكي الشهير جيمس برستد -توفي عام 5391- ان أي حضارة أو ثقافة هي استمرار أو امتداد لما قبلها.. ما عدا حضارة مصر الفرعونية. ويضيف برستد: قبل مصر الفرعونية.. كان الضمير في غياهب الظلام.. فقد ولد الضمير وقانون الأخلاق في مصر. إذن.. فان ثقل القوة يكمن في مصر بمخزونها الحضاري عبر آلاف السنين، في رأي الدكتور السيسي، مما جعلها تتميز بخاصية التفوق مما يفسر لنا كيف كانت تتصرف دائما كدولة مستقلة، لأن خصائص شخصيتها الاستراتيجية تكمن فيها دائما وأبدا. كما ان مصر علمت العالم الوسطية في كل شيء، وقاومت كل تطرف بل اصبح من الصعب علي أي تطرف ان يجد بيئة مواتية له في مصر، لأن المخزون الحضاري المصري يقاوم أي تطرف. ومن كتاب »مصر علمت العالم« نعرف ان هذا البلد علم العالم احترام القانون، فقد كان القانون المصري في عصر الفراعنة مثاليا في قواعده عادلا في احكامه، عاليا في مراميه، نقيا في مبادئه، صافيا في مواده، وكان اسم المحكمة العليا هو »بيت العدل الكبير«.. وكان لدينا مفتشون يمرون علي المحاكم لضمان سير العدالة، وكان المتخاصمون يترافعون عن أنفسهم.. ولم نعرف الرسوم أو المحامين أو الاستئناف إلا في العصر الروماني.. وكانت المرأة تتولي منصب القاضية، وأشهر القاضيات اسمها »نفرايحي«. ومما يلفت النظر ان الميزان كان يتصدر قاعة كل محكمة في مصر القديمة.. وقد نقل العالم كله هذا الرمز عن مصر. أرقي تشريع انساني الأحد: الحكيم المصري القديم »آني« يصف لنا مشهد النهاية والبداية بطريقة مشوقة: ها هو شخص قد توفي.. قادم الينا عبر السموات السبع.. كل سماء لها مواصفاتها ومخلوقاتها - لكي يصل الي قاعة محكمة السماء التي يتصدرها »اوزوريس«، الذي يوضع امامه الميزان. وفي احدي كفتيه قلب المتوفي، وعلي الكفة الأخري ريشة »ماعت« رمز العدالة والحق. و»تحوتي«، آلة المعرفة، يراقب سهم الميزان، ووراء اوزوريس 24 قاضيا، لكل واحد منهم سؤال.. ومن هذه الاسئلة: هل حفظت جسدك طاهرا؟ هل قتلت نفسا بغير حق؟ هل كنت -في أي حال- تكذب؟ هل استمعت لصوت ضميرك؟ هل كرهت انسانا؟ هل سلبت حرية أحد؟ هل تملكك الغرور؟ هل امتدت يدك لسرقة ما ليس لك؟ هل أعطيت خبزك للمحتاج.. وبعض ثمار حقلك للمنهكين؟ هل تعلقت بالدنيا بسلاسل من ذهب؟ هل عميت عن أمور الآخرة؟ هل صنت نفسك ولسانك عن الشهادة الزور؟ هل تذكرت الإله وسألته دوما الهداية والرشد؟ هل خنت جارك أو صديقك الذي ائتمنك علي عرض بيته؟ هل نظرت الي امرأة غير زوجتك؟ هل جلبت الرضا لقلب أمك والشرف لبيت ابيك؟ هل كنت سببا في دموع انسان؟ هل كنت أسيرا لغضبك يوما؟ هل تحدثت بسوء عن غيرك؟ هل اعتنيت بالنباتات واطفأت ظمأها؟ هل عذبت حيوانا أم عاملت الحيوانات بالرفق والشفقة كما تود ان يعاملك بالرفق من هو أقوي منك؟ هل مزقت الغيرة قلبك؟ هل عرفت السحر الأسود ودنست نفسك به؟ هل سكرت حتي فقدت عقلك؟ يجيب المتوفي عن الاسئلة قبل ان يضيف قائلا" »كنت عينا للأعمي، ويدا للمشلول، ورجلا للكسيح، وأبا لليتيم، ولم أجعل أحدا يبكي مني، ولم ألوث الماء، ولم أحلف كذبا، ولم أغش في الميزان، ولم أتلف أرضا مزروعة«. وعندما ترجح كفة قلب المتوفي، يعلن »تحوتي »براءة هذا القلب من الذنوب، ويصدر اوزوريس حكمه: »يكتب اسم المتوفي في سفر الحياة، ويجلس عن يميني، وتفتح له ابواب الجنة حيث يجد انهارا من اللبن وانهارا من الخمر المقدسة، وسنابل قمح من ذهب«. ويقول الحكيم »آني«: اذا كان المتوفي مذنبا يشطب اسمه من سفر الحياة ويلقي به في أتون النار«. في كتابه »مصر علمت العالم« ينقل الدكتور وسيم السيسي عن عالم المصريات الامريكي »والاس بادج« توفي عام 4391 - في كتابه »فلسفة العقائد عند قدماء المصريين«.. قوله »ان اسئلة القضاة هي أرقي ما وصلت اليه الكتب«، وهي تشريع انساني كامل يفرق بين الحق والباطل قبل ظهور الأديان بآلاف السنين«. وينقل عن »جيمس برستد« قوله: ان المصريين كانت لهم معايير أخلاقية أسمي بكثير مما يتصور الجميع. وهنا يضيف الدكتور السيسي ان كلمة »آمين«، بمعني طلب الاستجابة الي الصلوات، تستخدم في جميع لغات العالم، وهي ترديد لكلمة »آمون« المصرية.. فقد ظلت صلواتنا عبر آلاف السنين تنتهي ب»آمين«. أول طبيب الاثنين: »حور محب« - الأسرة الثامنة عشرة في تاريخنا القديم - هو أول من وضع قانونا لحماية حقوق الانسان »في سنة 3931 قبل الميلاد«. وتحتمس هو صاحب أول قانون دولي »سنة 0024 ق. م«. وأول حكومة في التاريخ كله.. كانت في مصر سنة 1424 ق.م أي منذ اكثر من 3526 سنة - في عصر ما قبل الأسرات. وأول طبيب في تاريخ العالم هو »امنحوتب« الذي سبق »أبو قراط« بآلاف السنين. هكذا عرف المصريون القدماء تشخيص الأمراض وعلاجها وجراحات العظام والبتر تحت الركبة والأطراف الصناعية وعمليات »التربنة« جراحة من جراحات المخ »منذ 0002 سنة قبل الميلاد« واكتشفوا مرض البلهارسيا قبل »تيودور بلهارس« بآلاف السنين، ونجحوا في علاج اضطرابات الدورة الشهرية، وشخصوا سرطان عنق الرحم وسرطان الثدي، وعرفوا المخدر الموضعي والعمومي والآلات الجراحية المختلفة، وتوصلوا الي اكتشاف البنسلين، واخترعوا عشرات العقاقير من أصل نباتي أو حيواني أو كيميائي. من هنا يقول الدكتور وسيم السيسي ان العلوم جميعا نشأت في مصر، وخاصة الطب، منذ خمسين قرنا وهذا ما يشهد به عالم المصريات »وارن داوسن«. .. وأول حكومة الثلاثاء: نهر النيل هو الذي وحد المصريين. تجمعوا حوله، وتعلموا روح الفريق عن خطر الفيضان، ووضعوا التقويم الذي يهتدي به المصريون في الزراعة.. حتي الآن، لأنه اكثر التقاويم دقة.. فقد كانوا قد تعلموا الزراعة.. عندما فاض عليهم النيل بالغرين. وعرف المصريون الصناعة من خلال الزراعة فقد صنعوا الحبال والمكيال والنول والمكوك والفأس والمنجل والشادوف والبكرة والمغزل والكتان الموشي باسلاك الذهب، وصنعوا أوراق البردي ليسجلوا عليها تاريخهم وحضارتهم، وعرفوا الحبر والأقلام بعد ان اخترعوا الكتابة. وانشأ المصريون جهازا فنيا هندسيا للمياه لخدمة آلاف الزراع.. وهذا، بدوره، استدعي اقامة جهاز امني - شرطة- ثم جهاز مالي ثم جهاز عسكري لحماية البلاد من اعداء الخارج. ويقول الدكتور السيسي انه علي هذا النحو تكونت أول حكومة في التاريخ، ولم ينفرط عقد وحدتها طوال سبعة آلاف سنة. وينقل مؤلف كتاب »مصر علمت العالم« عن الدكتور احمد فؤاد باشا، عميد كلية العلوم بجامعة القاهرة، قوله ان اجدادنا عرفوا بداية العد العشري وعرفوا الكسور، ووضعوا وحدات للمسافة والسعة والكتلة، وعرفوا التجريد، والمتواليات الهندسية، والذهب والحديد والبرونز والنحاس، كما عرفوا صناعة الزجاج الملون »الأزرق« بإضافة الكوبالت لمصهور الزجاج، ودباغة الجلود، وفن التحنيط. .. بل ان المصريين القدماء عرفوا قوانين الدائرة واستطاعوا ان يحسبوا محيط الكرة الأرضية، وعرفوا الأشكال الهندسية وعلاقتها بالطاقة الي جانب ابداعاتهم التي سبقت البشرية كلها في علوم الفلك وفنون العمارة. حقا.. لم تتعرض حضارة للظلم، بسبب الجهل، مثل الحضارة المصرية القديمة، كما يوضح الدكتور السيسي. ولا توجد حضارة يتنكر لها بعض أهلها ويحتقرونها كما هو الحال عندنا.. وربما لا يعرف هؤلاء اننا نستخدم 31 الف كلمة مصرية قديمة في احاديثنا اليومية الآن. وربما لم يسمع هؤلاء أناشيد وابتهالات »اخناتون« ومنها: »ايها الواحد الأحد الذي ليس بجانبه شأن لأحد. هو الأب والأم. وليس له والد ولا ولد. خلقت السماء العالية، وزينتها بالنجوم. انت فوق مدارك عقول البشر يا من تملأ البلاد. ببهائك وتغمرها بنورك..«. والأرجح ان هؤلاء لا يعرفون ان تراث الديمقراطية في مصر قديم.. قدم التاريخ.. فالحضارة الأولي في تاريخ البشرية كانت تدعو الي مبدأ المساواة بين الناس. وكانت الوصية التي توجه الي الوزراء وحكام الأقاليم عندما يتقلدون مناصبهم.. تقول: »عليك بمعاملة الرجل الذي تعرفه والرجل الذي لا تعرفه، والرجل الغريب منك والرجل البعيد عنك علي قدم المساواة وعندما يأتي اليك صاحب شكوي من الجنوب أو من الشمال، أو من أي بقعة في البلاد، فإن عليك ان تتأكد ان كل شيء يجري وفق القانون وحسب العرف الجاري.. فأعط كل ذي حق حقه.. ولا تنس ان تحكم بالعدل، لأن التحيز يعد طغيانا«.