هذا الذي يحدث في العالم العربي وبعض الدول الاسلامية يثير الذهول والاشمئزاز، ويجعل المرء يتساءل عن الهدف البعيد من وراء كل هذا الذي يجري من اعتداءات همجية علي بشر مؤمنين يؤدون الصلاة سواء في المساجد أو الكنائس. وهنا نلاحظ ظاهرة تلفت النظر، وهي: التطابق في أفكار ومناهج وأساليب ومنطق غلاة المتطرفين وأعداء مفهوم الدولة الوطنية من اليهود والمسلمين والمسيحيين. وهذا التطابق يؤدي الي تدمير شعوب عربية واسلامية واهدار قضاياها بحيث تخسر كل شيء في نهاية المطاف. وقد جاء وقت زعم فيه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش "الابن" أن الله يقف الي جانبه في غزو العراق(!) وبالتالي فانه يتوجب علي حكومته أن تكون علي استعداد لضرب أي مكان "مظلم" في العالم. واعتبر الرجل أن العراق من بين هذه الأماكن "المظلمة"، وتصور أنه رئيس الكرة الأرضية ! وهنا يذكرنا بوش بالرئيس الأمريكي "وليام ماكنلي" الذي أعلن في عام 1898 إن الله أمره بالسيطرة علي جزر الفلبين بهدف جعل سكانها "أكثر حضارة ودفعهم لاعتناق المسيحية"(!) وادعي "ماكنلي" أنه تحدث الي الله بينما كان يتمشي، بعد منتصف الليل، في ممرات البيت الأبيض!! وكان بوش ينتمي الي الأصولية الدينية المتعصبة عندما أكد مقولة "شعب الله المختار" في خطابه أمام الكنيست الاسرائيلي، كما لو كان يريد أن يقول أن "وعود الرب" تنتظره من أجل تنفيذها! وهكذا أعطي بوش نفسه الحق في استخدام الدين لأغراض سياسية. ان التطرف الديني هو نفسه سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا. هناك من يتسابقون لتقديم أفكارهم في ثوب ديني وأخلاقي وإيماني، ويوظفون الكتب المقدسة في معارك سياسية وغير سياسية. وكما جرت العادة فان هؤلاء المتطرفين يفترضون أنهم يمثلون الحق، أما غيرهم فانهم يجسدون الباطل دون سواه. وهناك من يقدمون لنا أمريكا الآن بوصفها "بلد الرب" مع استمرار محاولات "تديين" السياسة الأمريكية. والمعروف أن بوش قدم نفسه في الساحة الدولية باعتباره المرشد الروحي للعالم، وكان يحاول صياغة بعض خطاباته علي الأقل بلغة تبشيرية صريحة. ويشترك المتطرف اليهودي والمسيحي والمسلم في نفي الآخر بشكل مطلق، علي أساس أن الله - علي حد زعم كل منهم - أعطي الحق الكامل لأحد الأديان دون غيره مما يعطيه "مشروعية" القتال من أجل تحقيق ما يراه صحيحا.. وممارسة عمليات التدمير والعنف والتخريب والقتل الجماعي تحت لافتة الدين. وأصبحنا نشهد في عالم اليوم ظواهر مخيفة حيث ترتكب الجرائم والفظائع باسم الدين كما يتم تفسير كل انغلاق وجمود وتعصب باسم الدين، بل يتم ابتكار المعارك الفارغة التي تستند الي التضليل، ومهاجمة كل إرادة في التغيير والتحديث، واعتبار كل عملية تجديد مجرد مروق وفسق! انه نفس النهج الذي تطبقة الحركة الصهيونية واسرائيل، وأتذكر الآن ما قاله مؤسس مجموعة "الزمالة الدولية بين اليهود والمسيحين" الحاخام الأمريكي "يشيان اكشتيان" لأعضاء تجمع كنيسة "الحياة الجديدة" في ولاية "كولورادو" الأمريكية: "ان مسئولي الادارة الأمريكية ومستشاريها يعلمون أننا اذا أدرنا ظهرنا الي اسرائيل، فان الله سيدير ظهره لنا" ! ولا تتوقف تصريحات الحاخام الاسرائيلي "عوفاديا يوسف" الذي يردد في وصف العرب أنهم اسوأ من الأفاعي السامة وأنه يتمني أن يصابوا جميعا بالطاعون ويموتوا! وهنا أيضا تنبغي الاشارة الي الدراسة التي وضعها المستشرق اليهودي الأمريكي الدكتور "برنارد لويس" عام 1978 بناء علي طلب وزارة الدفاع الأمريكية، وكانت الأساس في طرح نظرية "وجوب إعادة النظر في الخريطة السياسية للشرق الأوسط من باكستان حتي المغرب، بحيث يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو عرقية كيان سياسي خاص بها" ! والمعروف أن اسرائيل تبنت هذه الدراسة فيما بعد وجعلتها أساسا لسياستها في المنطقة، وكانت تأمل منذ عام 1980 أن يشهد عقد الثمانينيات بداية ولادة لدول عرقية كردية وأمازيجية وافريقية وسنية وشيعية ومارونية ودرزية وعلوية.. الخ. ويقع غزو اسرائيل للبنان في عام 1982 في اطار تنفيذ هذه الاستراتيجية. وتصف المراجع الأكاديمية الأمريكية "برنارد لويس" بأنه أكثر المفكرين السياسيين تأثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية رغم أنه تجاوز التسعين من عمره. وفي هذا العام أصدر "برنارد لويس" كتابا جديدا بعنوان" الايمان والقوة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط" لكي يعلن "أن علي الغرب ان يختار بين أمرين، إما أن يحرر دول الشرق الأوسط، وذلك عن طريق تقسيمها الي دويلات، أو أن يتوقع الدمار عن طريق هذه الدول" ! في الوقت الذي يعلن فيه حكام اسرائيل وحماتهم الأمريكيون والمتطرفون من قادة الحركة الصهيونية العالمية أن اسرائيل يجب أن تكون دولة لليهود فقط. وبينما اعلن زعماء أمريكا منذ سنوات أن العالم ينقسم الي "معسكر الخير ومعسكر الشر"، ويتنازعه "ابناء النور وابناء الظلام" .. يؤكد أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الارهابي، أن العالم ينقسم الي "فسطاط الايمان وفسطاط الكفر". كما أن أعداء الدولة الوطنية والمواطنة والتسامح في العالم العربي يرفضون الدولة المدنية ويرفضون "شعار الدين لله والوطن للجميع"، ويرددون نفس المقولة الاسرائيلية التي ترفض التعددية الدينية داخل البلد الواحد. كما لو كان المطلوب هو تحقيق أكبر قدر ممكن من التشرذم والتفتت مما يؤدي الي انهيار الاجماع الذي قامت عليه دولة ما بعد الاستقلال وضرب كل مرتكزات وجودنا الاجتماعي... بدلا من بناء الدول وتطوير مفهوم المواطنة. ويبدو أيضا أن هناك من ترتبط مصالحهم بابعاد الأنظار عن القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبري التي تواجه العالم العربي. وعندما تقع جرائم قتل جماعي من نوع ما حدث مؤخرا في باكستان، مثل تفجير المساجد اثناء أداء المسلمين للصلاة، وهو ما يتكرر حدوثه في العراق... وعندما يتم تفجير كنيسة في بغداد أثناء أداء المسيحيين للصلاة أو قتل مسيحيين أثناء خروجهم من الكنيسة في نجع حمادي بعد ادائهم صلاة عيد الميلاد... وعندما تتعمق وتتفاقم التقسيمات الطائفية في دول مثل العراق ولبنان والسودان حيث ينفصل المسيحيون عن المسلمين في دولة مستقلة - واليمن والبحرين والصومال ومصر... فاننا نشعر بأن المنطقة العربية تتجه عكس التطور التاريخي للدول والشعوب، وانه بدلا من الدولة الأمة... فإن هناك من يحاول الاتجاه الي الدولة الطائفة أو الدولة المذهب أو الدولة العشيرة. و النموذج لهذا التوجه.. هو قيام دولة اسرائيل علي أساس ديني. لقد أصبح الصراع السياسي مغلفاً بالدين. وهناك من يحاول طرد المسيحيين من الجغرافيا بعد طردهم من التاريخ، والمؤسف أنه وقعت هجرات واسعة من المسيحيين من لبنان وفلسطين والعراق ومصر، رغم أن العرب المسيحيين كانوا قادة الفكر العروبي والوحدوي، ورغم أن زوال المسيحيين.. يزيل عن العرب عروبتهم، لأنه - لولاهم - لكانت الهوية الاسلامية كافية ومكتفية بذاتها ولا حاجة معها الي هوية أخري. وتكفي الاشارة الي أن اسرائيل نجحت حتي الآن في تفريغ القدس من العدد الأكبر من المسيحيين عن طريق التهجير - وكانو يشكلون اغلبية سكانها- بحيث أصبحت نسبة المسيحيين في كل فلسطين التاريخية الآن لا تتجاوز 2٪ كما أن عدد المسيحيين الذين بقوا في العراق لا يتجاوز 87 الف وكانوا مليون وربع قبل غزو أمريكا للعراق. نحن في حاجة الي تحصين العالم العربي من سموم الطائفية والمذهبية التي تمهد لتنفيذ المخطط الأمريكي - الاسرائيلي بتحويل العالم العربي الي كيانات طائفية ومذهبية وعرقية هشة، كما أننا في حاجة الي تقوية كل أجهزة المناعة في العالم العربي لمقاومة هذا الخطر الداهم والزاحف.