الانفصاليون من جنوب السودان يتحدثون من مكاسب الانفصال، الذي يسمونه استقلالا، وفي هذا التعبير »استقلال« منافاة للحقيقة وتجن عليها، فعندما نقول إن دولة استقلت من أخري، فذلك يعني أن التي تم الاستقلال عنها كانت دولة مستعمرة للتي استقلت، وهذا لا ينطبق علي الحال في السودان، فالوحدة هي الأصل في السودان، وهي التي كانت سائدة منذ أن تكون هذا البلد، وحق تقرير المصير الذي وضعته اتفاقية السلام الشامل، بعد أن تواطأت عليه كل القوي السياسية السودانية الحاكمة والمعارضة، جاء إقراره لوضع حد للحرب التي ظلت تدور في هذا البلد منذ استقلاله في يناير عام 1956م، ومعلوم أن التمرد الأول انطلق في أغسطس عام 1955م بتمرد حامية توريت المشهور. ولذلك فإن الحديث عن استقلال الجنوب ليس صحيحاً. والصحيح هو انفصال وليس استقلالا. ومع ذلك نناقش حجج الانفصاليين التي تقول بجدوي الانفصال ومنافعه. ونبدأ الكلام بحديث عن المكاسب التي يمكن أن يجنيها الجنوبيون إذا ما بقي السودان موحداً. وهذه تتداخل مع الحديث عن أوضاع الانفصال ومزاياه وخسائره في حال المقارنة. فإذا ما بقي السودان واحداً فإن أدني ما يكتسبه الجنوبيون أنهم سوف يحافظون علي وضعهم الحالي الذي يتيح لهم أن يحكموا إقليمهم حكماً مطلقاً وفق ما أتاحته لهم اتفاقية السلام الشاملCPA ومعلوم أن الحكومة الاتحادية لا تتدخل في أي شيء في حكم الجنوب الذي يتمتع بحكم ذاتي كامل. وحتي النسبة التي أتاحتها اتفاقية للمؤتمر الوطني للمشاركة في حكم الجنوب، فإن المؤتمر الوطني يرشح لهذه المناصب من منسوبيه من الجنوبيين. ونصيب حكومة الجنوب من قسمة الثروة في النفط بالإضافة إلي ما تخصصه الحكومة الاتحادية لجنوب السودان، فإن كل ذلك تستلمه حكومة الجنوب وتتصرف فيه حسبما تراه مناسباً دون أي تدخل من الحكومة الاتحادية. وتتصرف حكومة الجنوب تصرفاً مطلقاً في كل شئون الإقليم التنفيذية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وفضلاً عن هذا فإن للجنوب نسبة مشاركة واسعة في الحكومة الاتحادية وفي كل حكومات الولايات الشمالية. فاتفاقية السلام حددت للحركة الشعبية 28٪ زائداً 6٪ للقوي الجنوبية الأخري، هذا غير الجنوبيين الذين يشاركون في حصة المؤتمر الوطني وأية أحزاب أخري تشارك في السلطة. وحتي بعد الانتخابات الأخيرة، فإن المؤتمر الوطني أعطي الحركة الشعبية ذات نسبتها التي حددتها اتفاقية السلام، رغم أن ما حققته بالانتخابات أقل من ذلك. وأشرك كذلك قوي سياسية أخري من الجنوب، ولم يبخل علي منسوبيه من الجنوبيين، فمنح بعضهم وزارات، وعين آخرين مستشارين لرئيس الجمهورية، ولا توجد ولاية من ولايات الشمال الخمس عشر لا يوجد فيها وزير أو مستشار من جنوب السودان، وبعضها جمع بين الوزير والمستشار في حكومته. ومما يذهب إلي الجنوب من الخزينة الاتحادية المشروعات التنموية الضخمة التي يقوم علي تنفيذها صندوق تنمية جنوب السودان، وهي قد بلغت المليارات من الدولارات الأمريكية. وغير المشاركة السياسية فإن كل أجهزة الدولة الاتحادية الحكومية تحتشد بعدد كبير من الجنوبيين، وهذا حق طبيعي اكتسبوه بموجب حق المواطنة الذي يتمتع به السودانيون من كل إقليم كل حسب كسبه. هذا غير العمل في القطاع الخاص، وأية أعمال أخري يمارسونها في الشمال، فضلاً عن التعليم والتدريب والتأهيل وغيرها. كل هذه المكتسبات التي ينالها الجنوبيون من خلال وجودهم في السودان الوطن الواحد، وسوف تظل هذه المكتسبات قائمة إذا ما اختار الجنوبيون الوحدة. فهل هذه المكتسبات يمكن أن يضحي بها في سبيل 50٪ من حصة البترول الذي ينتج في الجنوب وتذهب للحكومة الاتحادية؟ وهل هذه النسبة تعادل هذه المكتسبات أو تقاربها حتي يفقدها الجنوب، للإنفراد بما ينتج في أرضه من نفط؟ وهل الانفصاليون من الجنوبيين حسبوا قيمة ما يأتيهم من الحكومة الاتحادية من دخل الشمال، وقارنوه بما يذهب إليها من البترول المنتج في حقول جنوبية؟ وبرغم أني لا أمتلك أرقاماً واضحة تحسم النتيجة لصالح النفط، أو مساهمات الشمال في دعم الجنوب، وما يأخذه الجنوبيون من الحكومة الاتحادية، إلا أن كل المؤشرات ترجح كفة ما يذهب إلي الجنوب، وما يناله الجنوبيون من الشمال، ومن وجودهم فيه مواطنين أصلاء في وطن واحد موحد. ويزيد علي ذلك أن الشمال، ومن أجل أن يظل السودان وطناً واحداً، أبدي استعداداً للتنازل حتي من حصته في بترول الجنوب. فعلي أية حجة بعد ذلك يستند الانفصاليون للمناداة بما يسمونه الاستقلال من الشمال؟