اهتم علماء الإسلام بعملية الإفتاء اهتمامًا عظيمًا، وجعلوها في مكانة عالية لعظمة دورها، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يتولي هذا المنصب في حياته، باعتبار التبليغ عن الله، وقد تولي هذه الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، فالمفتي خليفة النبي صلي الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وشبّه القرافي المفتي بالترجمان عن مراد الله تعالي. وعلي الرغم من ذلك فإن الساحة الدينية اليوم تعاني من فوضي في الفتاوي وفوضي في الخطاب الديني، نظرًا لتصدر غير المتخصصين للإفتاء، ونتيجة لتلك الفوضي التي حدثت في الفتاوي الدينية خصوصًا المنتشرة عبر الفضائيات والتي تصدر عن أناس غير مؤهلين للإفتاء من الأساس مما تسبب في حدوث بلبلة وتشكيك للناس في أمور دينهم قد دعونا من قبل بتأسيس جهاز رقابي علي الفضائيات يتولي مراجعة تلك الفتاوي التي تذاع علي الناس، أو إصدار قانون يجرم إصدار فتاوي من غير المتخصصين للحد من تلك الظاهرة التي تحدث البلبلة والنزاع والشقاق ونشر التشدد، وأعتقد أن هذا يعد من أهم طرق علاج هذه الظاهرة، علاوة علي قصر الأمر علي المتخصصين من العلماء، وتأهيل العلماء للإفتاء من خلال المعايير التي ينبغي أن تتوفر في من يتصدر لهذه المهمة العظيمة. فقد وصف الإمام الشافعي المفتي وما يجب أن يكون عليه بقوله: "ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيمَ أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن". ويقول الإمام الشاطبي في الموافقات عن المفتي الخليق بمنصب الفتيا: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس علي المعهود الوسط فيما يليق بالجمهوري، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلي طرف الانحلال"، ويقول أيضًا عن المفتي: "قائم في الأمة مقام النبي صلي الله عليه وسلم، لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولأن المفتي نائب في تبليغ الأحكام الشرعية". وهذا الدور تقوم به دار الإفتاء المصرية من خلال خطوتين بغرض التصدي لفوضي الفتاوي، الخطوة الأولي احترازية وقائية وذلك من خلال نشر وزيادة الوعي بين الناس، وتتبع تلك الفتاوي الشاذة ورصدها، والخطوة الثانية خطوة إصلاحية علاجية من خلال التصدي للفتاوي الشاذة، وتصحيح المفاهيم وعلاج هذه الفتاوي لإزالة ما أحدثته من لبس وبلبلة. فصناعة الإفتاء من العلوم المعقدة التي تحتاج إلي حرفية خاصة للقيام بها وإصدارها في صورة صحيحة، وتعد عملية صياغة الفتوي من أعقد العناصر في هذه الصناعة، حيث تمر الفتوي في ذهن المفتي بأربع مراحل أساسية، تخرج بعدها في صورتها التي يسمعها أو يراها المستفتي، وهذه المراحل الأربع هي: مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة الإصدار، وهذه الأمور ينبغي أن يراعيها من يتصدر لمهمة الإفتاء، لكن مثل هذه الأشياء يفقدها من يتصدر للإفتاء عبر الفضائيات المختلفة أولاً لأنه ليس من المتخصصين، وثانيًا لأن الرد علي الفتاوي يكون بسرعة وكأن الإجابة حاضرة في ذهنه، إضافة إلي عدم مراعاة الاختلاف بين السائلين، هذا إلي غلبة فقه التشدد علي مثل تلك الفتاوي، وأيضًا غلبة فقه المدرسة الواحدة، وأهم من هذا وذاك غياب من يحاسب مثل هؤلاء إذا أخطأ في فتواه أو تصحيح الفتاوي لدي المشاهدين الذين يختلط عليهم الأمر. وكما أوضحنا أنه لكي نتجنب تلك الفوضي لا بد من أمرين الأول من خلال قانون يجرم هذه الفتاوي التي تصدر عن غير المتخصصين، والثاني يجب مراعاة شروط المفتي والمستفتي والفتوي عند الإجابة عن أية فتاوي تعرض علينا، إضافة إلي تفعيل الفتوي الجماعية من خلال تفعيل دور المجامع الفقهية نظرًا للتطور الحادث في المجتمع وفي القضايا التي تعرض علي المفتين.