فجر اليوم الثاني للاعتصام حول القصر الرئاسي، مجموعة قليلة من الخيام داخلها مصريون من مصادر مختلفة، جمعهم، وحدهم، هذا العنصر الخفي للتكون عبر عصور سحيقة، عندما يهب المصريون في مواجهة خطر داهم لدفعه أو الاحتجاج عليه، يتحرك من في قري النوبة القصية تماماً مثل الصيادين في أقصي الشمال، حتي قبل اختراع التلغراف والانترنت والوسائط الحديثة، وهذا ما توقف أمامه كل محتل أجنبي حائراً، غير قادر علي تفسير هذه الحالة الخاصة جداً، حتي بعض المصريين لا يجدون لها شرحاً أو يقدرون علي فهمها، لا يمكن معرفتها إلا في إطار معرفة بالتاريخ المصري الطويل وخصائص القوم الذين يظن البعض أنهم خنعوا، أو استكانوا فإذا بهم ينتفضون كرجل واحد، كإنسان واحد، إنه الكل في واحد، تلك العبارة المدهشة التي قرأتها في كتاب »الخروج إلي النهار« والذي أقتني منه ترجمات خمس إلي العربية منذ أن بدأ فيليب عطية ترجمته كاملاً، إحدي هذه الترجمات بدأت في مجلة مصرية التي أسسها عبدالعزيز جمال الدين الباحث في التاريخ المصري، والذي حقق كتاب حنا النقيوسي أول من أرّخ لدخول العرب إلي مصر، وكذلك حقق كتاب تاريخ الجبرتي وكلاهما صدرا عن مكتبة مدبولي، ترجم الباحث المصري في اللغة القديمة شريف الصيفي المقيم في ألمانيا فصلاً من كتاب »الخروج إلي النهار« قرأته وكان الجديد فيه أنه يترجم من الهيلوغريفية إلي العامية المصرية مباشرة، اكتشفت القيمة الجديدة للنص العتيق، أساس النصوص المقدسة جميعها، ذلك أن اللغة المصرية العامية تحتفظ حتي الآن بآلاف المفردات المصرية القديمة ومن شاء الاطلاع علي بعضها فعليه بمطالعة مؤلفات المهندس سامح مقار التي أصدرتها الهيئة العامة للكتاب، إنني أركز علي تلك المؤلفات المهمة لأنه بدون فهم الماضي والعمق لن ندرك خطورة اللحظة الممتدة التي يمر بها مسار مصر الآن حيث تتعرض الهوية المصرية لأخطر ما عرفته من عدوان عبر تاريخها، ذلك أن الهجمات البربرية الكبري في الماضي جاءت من الخارج وكان لدي المصريين القدرة علي استيعابها، هذه المرة تجيئ من داخلها وما عشناه خلال الأيام الماضية ليس إلا بعض من تجليات المقاومة. الصم البكم الأربعاء فجراً : في إحدي الخيام المنصوبة أمام القصر الرئاسي، يرقد عدد من المعتصمين، لكل أحواله، ولكن الدافع واحد والسبب واحد، طوال الشهور الماضية كان يستوقفني في الشارع من أعرف ومن لا أعرف، أصغي إلي التساؤلات الحائرة »علي فين«، »احنا رايحين علي فين؟«، »وبعدين؟«، أسئلة تنم عن الإحساس بالغزوة غير المرئية والتي تستهدف الهوية والعمق الروحي، لذلك لم يكن صعباً نزول هذه الملايين في يوم واحد والتي قدرتها المصادر الأجنبية بخمسة وعشرين مليون إنسان، وخلال هذه المسيرات رأيت تجسيداً لمشاهد سامية، غير أنني أتوقف عند سور الاتحادية أو كما أفضل تسميته »القصر الرئاسي«، بالتحديد في تلك الخيمة الصغيرة التي ضمت عدداً لست متأكداً منه، غير أن ما يوحد بينهم ويجمعهم أنهم صم، بكم، أي أن حواس السمع والكلام بها وهني، معطلة، خرج هؤلاء للتظاهر، لابد أنهم رفعوا لافتات مكتوبة، أو لوحوا بأيديهم وفي النهاية قرروا الاعتصام، لذوي الحالات الخاصة مجتمع خاص بهم سواء كان معنوياً أو مادياً، أذكر مقهي مجاور لسينما كايرو بالاس قرب ميدان التوفيقية كنت أرتاده من حين إلي آخر لهدوئه ونظافته، ومع تكرار ترددي لاحظت خاصة في الليل أن معظم الزبائن من الصم البكم، يتحدثون بالإشارة، وبدأت ألاحظ المجتمع الخاص بالمقهي الذي كان معروفاً بمقهي »الخرس«، ولا أدري مصيره الآن فمنذ سنوات لم أذهب إليه غير أنني عرفت طريقاً يقربني من رواده إذ أنني بدأت أفقد قوة سمعي خاصة بأذني اليسري، وهكذا عرفت طريقي إلي الدكتورة هالة أحمد علي المتخصصة في قياس السمع وهذا تخصص نادر وهي من البارعات فيه، كانت النتيجة سماعة للأذنين، غير أنني ألاحظ خلال العام الأخير تراجع القدرة علي السمع في الأذن اليسري، وأخشي أن تلحق بها اليمني وهكذا أفقد المتعة التي ماتزال، الاستماع إلي الموسيقي، ربما لهذا السبب أكثر من الإصغاء إلي ما أحب وأفضل حتي أنني أصغي خلال عملي ومشيي كأني أخشي مقدماً هذه اللحظة. ومما يستحق الإشادة تخصيص بعض قنوات التليفزيون ترجمة خاصة تصاحب الأخبار أو الكلمات المهمة بلغة الإشارة، وهذا اهتمام جيد نتمني أن يعم جميع مستويات المجتمع، وفي كل عواصم العالم أجد في تخطيط الشوارع والمواصلات العامة والدور العامة ما يناسب حالات الإعاقة أياً كان نوعها، ولكم أتمني أن أطلع علي وضع ذوي الإعاقة أياً كان نوعها في الأحداث العامة، خاصة الصم البكم، كيف يعلنون مواقفهم، هل انتهبوا إليهم خلال المسيرة التي توجهت إلي القصر الرئاسي، أفكر فيهم باستمرار وأتمني أن ألتقي بهم حتي بعد أن جري لهم ما جري، بعضهم قرر الاعتصام، المشاركة في الدفاع عن روح مصر الدفينة، نصبوا خيمتهم ورقدوا بها، في الفجر بدأ الهجوم جري هدم الخيمة، فوجئ الصم البكم، تري.. هل أصغي أحد إلي صرخاتهم؟ ما بين ألم الضرب والسحل، وعدم القدرة علي النطق جري دمعي علي ما حاولت تجسيده عبر تخيلي لواقع مفزع وغريب علي مصر والمصريين نال خلاله الصم البكم ما نال إخوانهم الناطقين، تساوي الكل في مواجهة العنف. الأكفان الأربعاء مساء: أعرف عادة حمل الكفن من صعيد مصر الذي وُلدت به، عندما يتقرر الصلح بين طرفين بينهما ثأر، يجئ الشخص المطلوب، أي بتعبير أهل الصعيد »عليه دم« ومع حضور الشخصيات الكبيرة التي سعت إلي الصلح يتقدم هذا الشخص حاملاً كفنه إلي كبير الطرف المقابل الذي يطلب ثأراً، وهذا يعني أنه يطلب الصفح لكنه في الوقت نفسه يقبل الحكم الذي يمكن أن يكون بالقبول عندئذ تنتهي حالة الدم »الثأر« أو الرفض وفي هذه الحالة يلقي الشخص المعني الذي جاء حاملاً كفنه مصيره علي الفور، هذا هو معني حمل الكفن في مثل هذا الطقس القديم عربي الأصول، في حدود ما سمعته عن جلسات الصلح تلك لم أسمع عن قتل من عليه دية الدم، إذ لا يتم الوصول إلي هذه اللحظة إلا بعد مفاوضات طويلة وشاقة وتدخل شخصيات لها وزنها وتعهدات شفهية، وفي اللحظات الحاسمة يتقدم الشخص حاملاً كفنه أي متأهباً للموت، يمضي إلي مصيره المعلق بكبير الجماعة التي تطلب الثأر، في مسيرات الشعب المصري يوم الثلاثاء الأسبوع الماضي رأينا مشهداً جديداً علي المرأة المصرية، من يقرأ كتاب »الثورة الحمراء« لأحد شيوخ الأزهر المعاصرين لثورة 9191 سوف يذهل لتشابه التفاصيل فيما يتعلق بدور المرأة الإيجابي خلال التظاهر في الثورة، الكتاب صدر عن دار الكتب المصرية، ويتضمن شهادة عيان، المرأة المصرية التي يراد تكبيلها الآن، وإحاطتها بقيود شتي، خرجت في مسيرة الشعب المصري الأسبوع الماضي بتقليد جديد إذ حملت كفنها ليس طبقاً للتقليد المعروف، فكل من هؤلاء السيدات اللواتي تقدمن صفوف الرجال لم تقتل حتي ذبابة ولكنه تعبير عن موقف محدد، الاستعداد للشهادة، جاء ذلك في مسيرات يوم الأربعاء رداً علي عمليات القتل العمد التي تمت فجر اليوم واستهداف المعتصمين أمام القصر الرئاسي، صفوف النساء يتقدمن الرجال، لا يحملن فساتين السهرة أو الزفاف أو أحدث الأزياء إنما يحملن أكفانهن وهن في أشجع حالاتهن وأبهي حضورهن، هذا الشعب العظيم يفاجئنا بإبداعات جديدة دفاعاً عن هويته، عن حريته، عن وجوده. الإحساس بالأسرة الخميس: من المشاهد المؤثرة في مسيرات الأيام الماضية، أو الاعتصامات، نزول أسر بأكملها إلي الشوارع المؤدية إلي مكامن الخطر، الأب، الأم، الأطفال الصغار، تلك صورة من أعمق لحظات التعبير عند المصريين، الترابط الأسري عنصر أساسي في هذا الشعب، تحمله لنا النصوص القديمة وتفاصيل الحياة اليومية، في المتحف المصري وأنصح الزائر أن يتجه إلي اليمين حيث آثار الدولة القديمة، هذه الدولة التي ظلت مستقرة لعدة قرون وذروة إبداعها وإنتاجها الأهرام، المعجزة الإنسانية الوحيدة المتبقية من عجائب العالم القديم، لنتخيل عملية بناء الأهرام، الإدارة التي شيدت هذه العمارة التي لم تقرأ بعد كنص فلسفي من الحجر، هذه الإدارة ذروة الدولة القديمة والتي كانت قمة الدولة المركزية، وبرغم الاحكام والحضارة المتقدمة، انهارت البنية بعد الأسرة السادسة وتحطمت الدولة وعرفت مصر الفوضي التي استمرت لمدة قرن ونصف القرن من الزمان، تحولت فيها الدولة إلي شظايا، مجموعة صغيرة من الإمارات والمحميات المتصارعة، لذلك رغم الاستحالة في النبأ الذي لقي درجات هائلة من السخرية علي مواقع التواصل الاجتماعي، فإنني لم أسخر منه، كثير من المستحيل يبدو هكذا ومع تداعي الظروف يتحول اللامعقول إلي واقع، من هنا كنت أردد منذ سنوات منبهاً إلي ضرورة الحفاظ علي سلامة الدولة، والدولة مفهوم أشمل بكثير من النظام، ومن أراد أن يعرف ما يترتب علي انهيار الدولة المصرية عليه أن يقرأ ما جري خلال ثلاث فترات، الأولي تلك التي أعقبت انهيار الدولة القديمة منذ حوالي خمسة آلاف عام والثانية بعد الغزوين الفارسي والروماني حتي الغزو العربي في القرن السابع الميلادي، ثم الغزو العثماني في القرن السادس عشر والذي نتج عنه حالة من السيولة والفوضي استمرت حتي مجيئ الحملة الفرنسية ثم تأسيس محمد علي للمرحلة الحديثة في الدولة المصرية وتلك التي يجري محاولة تدميرها الآن، أعود إلي الأسرة المصرية، في المتحف المصري تمثال شهير لقزم وزوجته، يجلسان فوق مقعدين، وبينهما طفل صغير، هذا المشهد يتكرر عبر التاريخ المصري، حتي البائعين الجائلين بصحبون أطفالهم معهم، الإحساس بالأسرة عميق في الدولة المصرية، في الحياة المصرية ويحتاج إلي تأمل طويل، أحد تجلياته خروج المتظاهرين بصحبة الأطفال رغم كل ما يحدق بهم من مخاطر متوقعة، تلك الروح الجديدة المتجددة عند المصريين. من ديوان الشعر العربي قال الأبنودي في مربعاته: نَعَق غرابها علي خرابها قتل جنينها قبل الولادة عدوها اللي ياما سلبها جاهل.. نسي يسلب الإرادة