انسابت دموعي علي خدي وأنا في طريقي إلي المستشفي أحمل الأدوية لأبي الذي يرقد في الفراش لا يدري بما يدور من حوله.. حاولت أن أمنع الطيف الذي مر أمامي ينبئني بأن أبي رحل عنا وإذ بي أجد دموعي تنهمر بشدة لا تترك لي بصيصا من الأمل بأنه علي قيد الحياة.. وقدماي لا تحملاني وتتخبط لدرجة اني شعرت بغيبوبة مؤقتة وأني في طريقي للسقوط علي الأرض. لم استطع أن أخطو بقدمي نحو الغرفة التي يرقد فيها أبي وتذكرت اللحظات الأخيرة التي جمعتني به إذ كان يمسك بيدي بشدة يضغط عليها ثلاث مرات وينطق بكلمة واحدة »الحمد لله«. تذكرت ملامحه وعلمت أنه كان يخبرني بأن الأجل حان وما عليَّ سوي أن أقول مثل قوله »الحمد لله«.. تقدمت نحو الغرفة وقد تيقنت من وفاته دون أن أنبس بكلمة واحدة وإنما أهلكني أمر آخر كيف سأنبئ أمي بهذا الأمر بعد أن أخبرتها أنه يتحسن يوما بعد يوم. لم استطع أن أعود إلي المنزل.. مشيت في الشوارع المحيطة من منزلنا علي غير هدي ليقوم اخوتي بإخبارها وبعد أن شعرت بالإرهاق طلبت من أحد الجيران أن يعلمني بحال أمي قبل مواجهتها فقال لي إنها متماسكة وتسأل عني.. وما أن وطأت قدمي عتبة البيت حتي انطلقت أمي في حالة صراخ وبكاء مروع واندفعت تحتضنني بشدة قائلة »مات أبوك دون أن يكمل واجبه نحوك.. دون أن يراك وقد أكملت تعليمك.. دون أن يشهد عرسك وأولادك.. دون أن يطمئن عليك ويري عملك الذي تشغله«. حاولت تهدئة أمي بكل السبل ولكنها كانت ممزقة بين الحزن علي فراق أبي وبين الحزن علي ابنها الذي فقد أباه الذي طالما كان يحدثه بأنه يود أن يفعل هذا وذاك له ولكنها مشيئة القدر. العند والكفر تذكرت هذه اللحظات المريرة من حياتي وأنا أعيش المشهد الأكثر إيلاما إذ أري بلدي وهي بمثابة أمي تبكي من أبنائها الذين أخذوا علي عاتقهم أن يمزقوها تحت مسمي الديمقراطية ويضرب بعضهم عنق بعض ويثيرون الرعب واليأس بين جموع الناس. الأبناء يعلمون أن أمهم في حالة اختناق من ظلم وفساد العهد السابق ولم تتنفس بعد نسيم الحرية مع الثورة. وظنت أن أولادها سوف يعمرون أرضها بالخير حتي يظلل الجميع وظنت أن الحب أزال الحقد والكراهية وأن الأيدي المصرية التي تشابكت في أيام الثورة الأولي محت الفتنة الطائفية المصطنعة من النظام السابق وأنه أصبح لا ثأر بين الناس وإنما وئام وأن اسم مصر هو الأغلي من كل روح استشهدت في سبيل تحرير مصر من الظلم والقهر. ولكن ماذا حدث؟!.. نشبت معركة الصدامات السياسية والكل يعتبر نفسه أحق بالحكم. أصبحت وتيرة »العند« بين الأطراف المتصارعة علي السلطة هي المذهب الذي يراه الناس فيدفعون من دمائهم ثمنا له.. لقد صار أخوة الثورة الأخوة الأعداء وما ترك لنا العند وغياب الحكمة والكلمة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع إلا نغمة الكفر التي عادت تتردد بين جنبات الوطن رغم ان بعض الجماعات الإسلامية التي راجعت نفسها أكدت انه لا يجوز تكفير أحد لمجرد الخلاف معه في الرأي. الثمن غال ما نقوم به الآن من صراعات سياسية لا يقل خطورة عما فعله النظام السابق. بل الأمر يزداد سوءاً خاصة أن بلدنا ما عاد لها من الامكانيات ما يعينها علي تحمل عبث الصراع السياسي الذي يأخذ مسحة دينية لزيادة لهيب الخلاف. فأصبحنا نئن بين الهلاك والنيران التي تأكل الأخضر واليابس وبين غياب الحكماء الذين يستطيعون ان يمسكوا بطرف النزاع لإخماده. أمي باكية لما يحدث من أولادها الذين ينظرون تحت أقدامهم لا يريدون لها خيرا حتي وإن كانت شعاراتهم »نموت نموت وتحيا مصر« والأصدق انهم يقصدون بأفعالهم »نموت.. نموت وتموت مصر« وأقول مثلما قال أبي »الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله« لعلنا نجد يسرا بعد عسر.