تنشغل الساحة السودانية هذه الأيام بالاستراتيجية الجديدة لسلام دارفور، والتي يقود تنفيذها مستشار رئيس الجمهورية مسئول ملف دارفور الدكتور غازي صلاح الدين. وفكرة الاستراتيجية تقوم علي هدف توطين عملية السلام في الداخل. وهي جاءت تأكيداً لما قال به مسئول ملف دارفور بأن مفاوضات الدوحة فشلت في تحقيق السلام المطلوب. ولكن مع ذلك أبقت الحكومة السودانية علي منبر الدوحة منبراً خارجياً وحيداً وأخيراً للمفاوضات الخارجية مع الحركات المسلحة. وتقوم الاستراتيجية الجديدة علي خمسة محاور، هي الأمن والمصالحات والعودة الطوعية والتنمية والمفاوضات. فلو أن هذه المحاور تم حسم قضاياها بصورة شاملة فإن السلام في دارفور يتحقق تلقائياً. فالأمن هو أساس كل شيء ومدخله. ومعني به الأمن بمفهومه الشامل، إذ إن استقرار الأحوال الأمنية هو الأساس الذي تقوم عليه حلول الملفات الأخري. فبغير الأمن لن تكون هناك عودة طوعية أو غير طوعية، ولن ينجح مشروع للتنمية، ولن تكتمل المصالحات، وقد لا تبدأ أصلاً، وبالطبع لن تكون هناك جدوي لأية مفاوضات. ولهذا يجب أن يسبق حسم الملف الأمني الدخول في قضية أخري. ومما يحمد في هذا الجانب أن الحكومة استطاعت أن تحسم المسألة الأمنية في دارفور، وبسطت سيطرتها علي أغلب مناطق الإقليم، وهي تسعي الآن لإدخال بعض البؤر المنفلتة مثل معسكر كلمة في مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور. بعد الأمن تأتي مسألة المصالحات، وهي مدخل مهم للتعايش بين المواطنين، إذ إن الحرب تخلف في العادة مرارات عديدة، ويضار منها كثيرون، هذه الأضرار لابد أن تزال، وتضمد معها تلك الجراح التي تنشأ من تلك الحروب. ومما يساعد علي ذلك أن دارفور لها تراث غني في أدب المصالحات، ولقد وضعت بعض الجامعات الأمريكية منهجاً خاصاً لتدريس فقه حل النزاعات الأهلية في غرب السودان والمعروف باسم »الجودية« فقط المطلوب التعامل مع هذه المسألة بجدية وشفافية. والمصالحة تبدأ بالمصارحة. ولأهل دارفور تراث في ذلك، فهم يقولون لحديث المصارحة »غسيل المصارين« ولذلك فهم يتيحون مجالاً واسعاً للمصارحة والمكاشفة قبل الخوض في تفاصيل عناصر التصالح. وهذا الدور يمكن أن تلعبه الصحافة وبقية وسائل الإعلام الأخري، فإذا ما هدأت النفوس، وذهب عنها الغضب دخل الناس في أجندة حوار المصالحة. ويجب علي الدولة والمجتمع المدني المحلي الإقليمي، وكل الحادبين علي سلام دارفور والمتولين ملفه، مثل الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، والأممالمتحدة، والوساطة القطرية، والدول الشقيقة والصديقة، وفي مقدمتها مصر أن تحشد لهذه المصالحات استحقاقاتها، وأكثر هذه الاستحقاقات مادية. فلا بد من جبر أضرار المتضررين، وتطييب خاطر الذين انكسرت نفوسهم خلال سنوات الحرب اللعينة. بعد المصالحات تأتي مسألة العودة الطوعية، والعودة إلي المدن والقري التي نزح منها أهلها، تكون بتهيئة أسبابها. ومعلوم أن كثيراً من قري دارفور دمرتها الحرب، وأهلكت كل شيء فيها. فلو تحقق الأمن والاستقرار، وتمت المصالحات الأهلية، وجري إعمار هذه القري، فسوف يعود النازحون دون أن يدعوهم أحد. ويجب أن يوضع في الاعتبار أن المعسكرات قدمت فيها خدمات لم تكن متاحة في القري التي كانوا فيها، مثل الخدمات التعليمية والصحية، ومياه الشرب الصالحة، فضلاً عن بعض وسائل الترفيه، مثل التلفزيونات وقنواتها الفضائية. فالأطفال الذين نشأوا في هذه الظروف لن يكونوا متشجعين للعودة إلي قري متخلفة، لذلك يجب أن يكون إعمار القري بما يقارب أجواء المعسكرات. ثم تأتي بعد ذلك التنمية الشاملة لولايات دارفور، وهذه قد وضع أساسها النظري، وانطلقت الآن كثير من المشروعات التنموية بجهود داخلية وإقليمية، وهناك الصندوق العربي لإعمار دارفور، بالإضافة إلي ما رصدته دولة قطر للتنمية والإعمار لدعم سلام دارفور الذي ترعي مفاوضاته. فلو تحققت هذه المحاور الأربعة الداخلية تنفتح الأبواب أمام المحور الخامس، والخاص بالمفاوضات. وهذه محسوم أمر مكانها بما حددته الحكومة، حينما أعلنت أن الدوحة هي آخر المنابر الخارجية، وميزة منبر الدوحة أنه ترعاه الجامعة العربية، ويقف معها فيه الاتحاد الأفريقي، وتباركه الأممالمتحدة. فلو سارت الإستراتيجية الجديدة حسبما خطط لها، فإن سلام دارفور سوف يكتمل مشواره بإذن الله تعالي.