محمد وجدى قندىل انهم رجال مجهولون.. يعملون في صمت لكشف أخطر المعلومات في حرب سرية ويتحملون المهام الصعبة في كل الظروف ثمانية وخمسون عاما مضت علي انشاء المخابرات العامة المصرية ذلك الجهاز الذي يحمي أمن مصر في الداخل وفي الخارج ويقف بالمرصاد لأي محاولات خارجية لاختراق الأمن القومي، ويرصد عمليات التجسس من أي اتجاه ويكشف شبكاتها السرية التي تسعي إلي تجنيد العملاء.. وقد أنشئ هذا الجهاز - المخابرات العامة والأمن القومي بعد ثلاثة أعوام من جهاز الموساد الإسرائيلي الذي قام بن جوريون بتكوينه لحماية »أمن إسرائيل« والتجسس علي الدول العربية المحيطة بها وبالذات مصر وذلك في يونيو 5591 وبينما انشئ في ذات الوقت جهاز المخابرات المركزية الأمريكية »وكالة سي آي إي« وكان الهدف هو مواجهة الحرية السرية التي نشطت في تلك الفترة - بعد الحرب العالمية الثانية باستخدام العمليات السرية المخابراتية للحصول علي المعلومات وتجنيد العملاء من كل الجنسيات وتنفيذ عمليات من نوع خاص لا تدخل في قائمة الحروب. وكان قد مضي قرابة عامين علي ثورة يوليو في مصر حينما فكر جمال عبدالناصر في انشاء هذا الجهاز للقيام بمهمة حماية أمن مصر بعد محاولات التخريب التي قامت بها شبكة اسرائيلية في القاهرة والاسكندرية »من اليهود المصريين« عام 45 وعرفت وقتها باسم »فضيحة لافون« رئيس الموساد الذي قام بتدبيرها واستخدم فيها عناصر يهودية لتنفيذ تفجيرات في منشآت أمريكية وأجنبية وكان الهدف من المخطط هو تخريب العلاقات المصرية الأمريكية واختراق الأمن الداخلي المصري ولم يكن ذلك ممكنا إلا من خلال »الطابور الخامس« المزروع من اليهود المقيمين في مصر وقتها ويمارسون أعمالهم كغطاء لذلك النشاط السري.. وبعد كشف فضيحة لافون أصدر عبدالناصر - برؤيته النافذة - قرار انشاء جهاز المخابرات العامة لمواجهة محاولات التجسس وعمليات التخريب التي تستهدف الأمن القومي، وتم تكليف زكريا محيي الدين بتلك المهمة الصعبة وانشاء الجهاز في سرية واختيار العناصر المطلوبة من ضباط المخابرات الحربية وآخرين من رجال القوات المسلحة ذوي المهارات والقدرات المناسبة للعمل في ذلك الجهاز الذي يمارس تلك العمليات الخاصة والسرية في الداخل وفي الخارج لمواجهة جهاز الموساد وغيره.. ورغم أن مثل هذا النشاط لم يكن معروفا من قبل في أجهزة الأمن المصرية إلا أن سرعان ما أنشئت المخابرات العامة وتحددت أهداف الجهاز ووسائل نشاطه وكان الرجال في سباق مع الزمن لتوفير الحماية لنظام ثورة 32 يوليو في مواجهة التحديات الإقليمية والمؤامرات الخارجية وبالذات من جانب إسرائيل بواسطة جهاز الموساد الذي يسعي دائما لاختراق الأمن القومي المصري وبما يخدم الأهداف الإسرائيلية.. ورأي عبدالناصر بعد ذلك أن يتولي مسئولية جهاز المخابرات العامة »علي صبري« حتي يتفرغ زكريا محيي الدين لأعباء وزارة الداخلية والاشراف علي كل أجهزة الأمن المصرية لحماية الثورة من أعدائها في الخارج والداخل.. ولكن علي صبري لم يبق أكثر من عام بعدما حدثت خلافات بينه وبين ضباط الجهاز وبما كان يشكل خطورة علي أدائه، وطلب عبدالناصر من المشير عبدالحكيم عامر القائد العام أن يرشح ضابطا كفؤا من مكتبه لتولي رئاسة المخابرات العامة واستكمال نشاطها وأقسامها.. واقترح صلاح نصر »النجومي« الذي كان يعمل مديرا لمكتبه ومسئولا عن أمن القوات المسلحة، ولكن صلاح نصر اعتذر في البداية لعبد الحكيم عامر عن قبول المهمة الخطيرة وقال انه لا يصلح لتحمل هذه المسئولية ولكن عبدالناصر اختار صلاح نصر واستدعاه إلي مكتبه وكلفه برئاسة جهاز المخابرات العامة وقال: إنني وجدت بعد الترشيحات والمواجهة أنك الذي يصلح لهذا المكان! لم يكن الأمر سهلا ولم تكن المهمة ميسورة فإنها لم تكن معروفة في مصر والدول العربية من قبل وكان ذلك النشاط مقصورا علي أجهزة أمريكية وسوفيتية وأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها فقد تسابقت تلك الدول للحصول علي المعلومات السرية من مصادر متعددة واستفادت من شبكات التجسس وزرع العملاء بحيث يكون لديها صورة متكاملة - معلوماتية - لما يدور داخل الدول الأخري - وحتي الصديقة - وكانت مصر مركزا مهما للمعلومات وكانت أرضا خصبة لأنشطة أجهزة المخابرات والعملاء الذين يحاولون الحصول علي المعلومات التي تفيد أمريكا وبريطانيا في وضع سياساتها بالمنطقة العربية الحساسة وذات الأهمية القصوي بعد ظهور البترول في أرضها وما يمثله من أهمية للمصالح الأمريكية والأوروبية وكذا الوضع الاستراتيجي لدول المنطقة.. وتحت هذه الظروف الصعبة والمعقدة بدأ نشاط المخابرات في مصر! في كتاب المخابرات العبرية سجل ركوف كاروز - المؤرخ العالمي لشئون أجهزة المخابرات - أن جهود زكريا محيي الدين ورجال المخابرات المصرية - في بدء نشاطها - أدت إلي إفشال النشاط السري البريطاني في مصر وقتها - بعد ثورة يوليو - وتمكن جهاز المخابرات من كشف العديد من الجواسيس اليهود بالذات الذين يعملون لحساب بريطانيا وإسرائيل وشبكات التجسس التي كان تسعي لتخريب الأمن القومي واستطاع رجال المخابرات الإيقاع بأفراد شبكة التجسس من العملاء اليهود ووجهوا ضربة في الصميم للمخطط الإسرائيلي تجاه الأمن داخل مصر. واتخذ جهاز المخابرات العامة في بدء تكوينه مقرا سريا في مبني ملحق بمبني رئاسة الوزراء في شارع قصر العيني وأخذ يمارس نشاطه ضد محاولات اختراق الأمن القومي وكان عبدالناصر يتابع بنفسه ما يقوم به الجهاز لحماية النظام بمعاونة زكريا محيي الدين المعروف بحسه الأمني والمخابراتي.. وبعدها وضع صلاح نصر خطة متكاملة لتدعيم المخابرات العامة وتخطيط أنشطة الجهاز الداخلية والخارجية واختيار عناصره من الجيش والشرطة وجهات أخري بعدما درس نظام المخابرات المركزية الأمريكية »سي آي إي« وكان يري أنها النموذج الأمثل القوي الذي يعمل علي المستوي العالمي - إلي جانب جهاز ال »كي جي بي« السوفيتي و»إم 6« البريطاني وسافرت عناصر من الجهاز في بعثات دورات تدريبية مخابراتية في أمريكا وتم انشاء المبني الحديث للمخابرات العامة في القبة وتزويده بأحدث الأجهزة والتقنيات بحيث يكون نموذجا لأقوي أجهزة المخابرات في العالم.. وكان صلاح نصر يحرص علي تطوير أداء الجهاز للقيام بدوره في المنطقة وامتدت أنشطته إلي الخارج من خلال شبكات واسعة للحصول علي المعلومات التي تتصل بالقرار السياسي المصري.. وقام بجهود صعبة في توفير معلومات عندما قام عبدالناصر بتأميم قناة السويس والاتصالات السرية التي كانت تجري بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل! اختراق إسرائيل والموساد وإتجه نشاط المخابرات العامة إلي داخل إسرائيل ذاتها وتمكنت من زرع أول عميل مصري داخلها - وهو رفعت الجمال - الذي ظل يزاول نشاطه من خلال شبكة من العملاء الإسرائيليين علي مدي سنوات دون أن يتمكن الموساد من كشف اتصالاته كان يرسل معلومات مهمة عن التحركات العسكرية والسياسية الإسرائيلية ومنها معلومات عن احتمال قيام إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية مفاجئة قبل 5 يونيو وكذا عمليات تسليح الجيش الإسرائيلي وتزويده بمعدات حديثة من الغرب »فرنسا« لاستخدامها في الهجوم علي مصر بعد حصولها علي صفقة الاسلحة التشيكية.. ولم تكتشف إسرائيل سر رفعت الجمال الا بعد وفاته.. وهناك عمليات أخري وعملاء آخرون في ملفات المخابرات ولكنها تعتبر من الأمن القومي المصري »سري للغاية« وباعتبارها جانبا غير معلن من الحرب السرية! وهناك مثل عملية »الحفار« الذي أغرقته المخابرات في ميناء أبيدجان »ساحل العاج« الذي حصلت عليه إسرائيل فيما بعد يونيو 76 لاستخراج البترول من خليج السويس وكانت العملية ضربة قاصمة للموساد.. وغيرها.. وكان هناك رجال مجهولون يعملون طول الوقت في صمت.. لمتابعة العملاء الذين يتمكن الموساد من تجنيدهم في الخارج تحت في ظروف خاصة مثل قضية هبة سليم التي قامت بالتجسس علي مواقع منصات الصواريخ المصرية عند بنائها قبيل حرب أكتوبر وكانت تحدد أماكنها لكي يقصفها الطيران الإسرائيلي قبل تركيب الصواريخ عليها في سرية وقامت هبة سليم بتزويد اسرائيل بمعلومات عن حائط الصواريخ في القناة وقامت المخابرات باستدراجها إلي القاهرة بعد انكشاف دورها.. كان الرجال يخوضون الحرب السرية ضد الموساد علي امتداد الوطن العربي وعلي اتساع العالم، واكتشفت المخابرات المصرية الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي زرعته إسرائيل في دمشق ووصل إلي قصر الرئاسة في عهد الرئيس السابق أمين الحافظ علي أنه رجل أعمال سوري من المهجر في أمريكا الجنوبية وصار مقربا من القيادة السورية ومطلعا علي اسرارها السياسية والعسكرية بعدما تمكن من خداع شخصيات سياسية وعسكرية وقتها وتم ابلاغ القيادة السورية بحقيقة »إيلي كوهين« وتم القبض عليه واعدامه.. وهكذا تعمل عيون المخابرات العامة وآذانها في صمت! وعلي مدي ثمانية وخمسين عاما تولي رئاسة جهاز المخابرات العامة رجال لهم قدرات ومواصفات خاصة - بعد صلاح نصر - ومنهم: أمين هويدي وحافظ إسماعيل - الذي فتح أول اتصالات مع الدكتور كيسنجر خلال حرب أكتوبر بتكليف من الرئيس السادات - وبعده تولي »المشير« أحمد إسماعيل - الذي قام بقيادة حرب اكتوبر- وبعد ذلك كمال حسن علي بعد توقف القتال ومحمد سعيد الماحي ومن الاسماء الأخري ابراهيم فؤاد نصار ومحمد نور عفيفي.. وتولي اللواء عمر سليمان رئاسة الجهاز علي مدي ثمانية عشر عاما وقام بتطوير أداء المخابرات العامة بما يتلاءم مع ظروف عملية السلام وما تتطلبه من اليقظة والانتباه ونجح في مهمته وأقام علاقات تفاهم ولصالح الامن المصري في مرحلة حساسة ولذلك قام بزيارات إلي إسرائيل للحوار مع القادة الاسرائيليين مثل ايهود باراك ولصالح الفلسطينيين.. وكان الرجل يعمل في صمت وبعيدا عن دائرة الضوء ولكن ظروف المهام الأخري التي كلفه بها الرئيس السابق مبارك سلطت الأضواء عليه باعتباره رجل المخابرات القوي الذي يعرف كل الاسرار وتكررت زياراته لواشنطن في الفترة الأخيرة لمقابلة المسئولين الأمريكيين والتفاهم حول العلاقات المصرية الأمريكية.. ولكن اللواء عمر سليمان ترك مكانه إلي منصب نائب رئيس بعدما تفاقمت الأزمة وثورة 52 يناير. وبعده تولي المسئولية في الجهاز اللواء مراد موافي وفي مرحلة من أصعب وأخطر المراحل وأدار الملف الفلسطيني بحنكة وخبرة وخصوصا بالنسبة للمصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس ومازال يحاول مد جسور الثقة والتفاهم وهو يتميز بالهدوء وطول البال.. ولذلك تمكن من حل قضية جلعاد شاليط والافراج عن أعداد من المسجونين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في صفقة غير مسبوقة، ومازال مراد موافي يبذل جهوده للتهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وخصوصا في قطاع غزة.. انه بطبيعة رجال المخابرات العامة يعمل في صمت ويدير أخطر جهاز في المنطقة!