لم ترزق زوجة عمران بولد، فقد كانت عاقرا، تتمني الولد لتتمتع برؤيته وتقر عينها بطلعته.. عانت زوجة عمران مثلما تعاني المرأة عندما تجد نفسها حرمت الطفل الذي هو سميرها في وحدتها. وقد تكون زوجة عمران أمضت الأيام والسنين ترقب تحقيق هذا الرجاء، وتنتظر هذه الأمنية، وقاست وذاقت مرارة اليأس. إلتجأت المرأة الي رب السموات والأرض.. توسلت في خضوع وخشوع.. حتي أنها نذرت إن نالت أمنيتها، ورزقت الولد، فإنها تتصدق به علي بيت المقدس ليكون خادما له وسادنا من سدنته. استجاب رب كل شيء الي دعائها وآتاها ما سألت، فشعرت بالجنين يتحرك بين أحشائها، فاخضر عودها، وأشرقت الدنيا في عينيها، وفارقها العبوس.. تجلس الي زوجها منشرحة تحدثه عما في أحشائها وما تقدره له. وبينما هي تسبح في أحلامها وآمالها، تعد للمولود عدته وترجو الحياة من أجله.. تبدل الحال من السرور الي الحزن، وغير فرحتها الي الشجن.. مات عمران الزوج والحبيب، فاضت الدموع، وقد كانت تتمني أن ينعم برؤية وليده وفلذة كبدها بعد أن حرما منه كثيرا.. ولكنه قضاء الله، ولا راد لقضائه. صارت الأرملة وحيدة عابسة، إلا أن الأمل فيما تحمله في احشائها كان يسريان عنها مما هي فيه من حزن ووحشة. فوجئت المرأة بوليدها الذي انتظرته سنين طويلة، ونذرته لبيت المقدس »أنثي«، الإناث لا يصلحن لذلك. غشي المرأة الحزن وغمرتها موجة من اليأس.. وراحت تذيح ما هو قابع علي صدرها ثم سمتها مريم »معناها العابده«، وطلبت من الله أن يعصمها بعنايته، وأن يجعل لها من اسمها نصيبا، ويعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ولما انطوت علي همها، التجأت الي الله، فرحم ضعفها واستجاب لدعائها وقبل الهبه، وأتم نعمته عليها بأن رضي أن تكون ابنتها »مريم« وفاء للنذر، وأخبرها بأنه أعلم بما وضعت، ويقدر ما وهبت. عند ذلك فرحت، وعلمت أن الله اختصها بإكرامه، وخصها بنعمته.. قامت أم مريم ولفت الأنثي في خرقة، وحملتها الي بيت المقدس، وقدمتها الي الأحبار وقالت: دونكم هذه البنت فإني قد نذرتها لخدمة البيت وتركتها وانصرفت. ولنتصور هذه المرأة التي فقدت بالأمس زوجها.. واليوم أودعت فلذة كبدها بين يدي سدنة البيت وخدمه.. نراها مستسلمة لقضاء الله، راضية بما قدره لها، فاطمأن قلبها لقبول ابنتها بقبول حسن وأن الله فضلها بهذا الكرم دون غيرها من نساء العالمين. ولنتخيل أيضا أنها قد يدفعها الحنو وإحساس الأمومة، وعوامل الشفقة علي ابنتها فتذهب الي بيت المقدس تستفسر -من بعيد- عن حالها، وتتعرف أحوالها حتي تطمئن، فتعود حامدة شاكرة فضل الله أن قبل قربانها وأسبغ نعمته عليها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: »إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثي وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا«. سورة آل عمران »35 37«.