د.عبدالرحىم خلىفة كم من قلاع بنيت علي الرمال ثم زالت مع أمواج البحر, وكم من صروح عصفت بها الرياح ولم يبق منها إلا الأطلال. ولم يخلد التاريخ من الحضارات إلا تلك التي قامت علي أسس صلبة، يرتفع فوقها البناء شامخا يهذاء بالرياح والأنواء , ويعلو فوق الحوادث والأحداث. وقبل أن نشرع في بناء النهضة المصرية الحديثة فلابد من إعادة النظر إلي تربة البناء . ومع قيام ثورة 25 يناير، تقلبت التربة وتحرك الساكن فظهر إلي السطح ما كان مختبئا وغير منظور وتبين لنا الآتي : أولا : إنفصام الشخصية المصرية إلي شخوص متعددة، متنافرة ومتناحرة لايوجد بينها انسجام أو وئام . وأزعم أن ذلك بسبب ثقافات خارجية وردت مع الوافدين من العمالة الخارجية بالإضافة إلي ماتسرب إلي عقول المصريين عبر الفضائيات . وأبرز هذه الثقافات وأكثرها تأثيرا هي الثقافة الخليجية - وهي متنوعة - والثقافة الغربية - وهي أكثر تنوعا . ولم تنصهر هذه الثقافات مع الثقافة المصرية - التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي - والتي احتفظ بها قلة من المعاصرين المصريين . أما الكارثة الكبري فتلك الثقافة التي تفشت في جموع المصريين والتي أسميها - إن جاز لي ذلك - ثقافة (الغوغاء) وهي إفراز الجوع والفقر والقهر والجهل والظلم . والخطورة في إختلاف الخلفية الثقافية أنها تؤدي إلي إختلال معايير الصواب والخطأ . فما يراه البعض مباحا يراه الآخر حراما، وما ينظر إليه فريق علي أنه حداثة ومعاصرة يراه الآخر أنه فسق وفجور. ويظهر ذلك جليا في الخلافات حول الدستور وقد ظهر من قبل في الانتخابات الرئاسية والتي حسمتها نيران الكراهية ولم تؤثر فيها رياح الحب . ثانيا : التنازع علي السلطة وقد شاهدناه - في الآونة الأخيرة - بصورة فجة وعميقة والذي أري أنه محاولات لإعادة ترتيب القوي داخل المجتمع . فلقد كان هرم السلطة - قبل الثورة - تعلوه رئاسة الجمهورية، ومرورا بالجيش والقضاء والشرطة والإعلام ومنتهيا بافراد الشعب، كل حسب قوته وثروته وعلاقاته ومكانته الإجتماعية . وتظهر قوة كل فرد في قدرته علي كسر القانون ومخالفته . والآن وبعد الثورة تحاول كل فئة - بل كل فرد - التسلق علي هرم السلطة . والآن هل يقبل الجميع أن يكون الشعب حقا علي قمة الهرم ونكون جميعا أمام القانون سواء ؟ . ثالثا :الخلل في منظومة الدخل وغياب العدالة في تقسيم الثروة هو في نظري أكبر حقل للألغام يكمن تحت الأرض . وإن تفجر فإنه لن يبق ولا يذر والسكوت عليه جريمة في حق هذا الوطن . لذا يجب إطفاء الفتيل قبل أن يشتعل. ولايكفي ماصدر من قوانين الحد الأدني و الأقصي للمرتبات والذي تم الإلتفاف حولها بعدة صور . لذا يجب أن يؤخذ هذا الموضوع مأخذ الجد وتتخذ الدولة عدة إجراءات حاسمة منها ضريبة الدخل التصاعدية علي الأفراد و ضمان وصول الدعم للطبقات الفقيرة دون الغنية وتطبيق نسبة الحد الأدني والأقصي علي كافة موظفي الدولة . رابعا: عمق النظام القديم وتغلغل اتباعة والمستفيدون منه بنسبة لايستهان بها بين أفراد المجتمع وتلك هي قاعدة هرم النفعية واستباحة الفساد. وقد أطلت علينا هذه الفئة عدة مرات كرؤوس الشياطين، تزعزع الأمن وتنشر الفتن وتعرقل المسيرة وتصطنع الكبوات . وللأسف الشديد أنهم أكثر عددا من كل أماكن السجون المتاحة . وما يحيرني ولا أكاد اصدقه، أن القوي السياسية مازالت تحتضن هؤلاء وتستعين بهم، بل والأدهي والأمر أن القوي السياسية مازالت تفكر بنفس عقلية النظام السابق ومازالت تستخدم نفس الآليات وكأنني أري - وللأسف الشديد - أن نظام مبارك لم يكن نظاما نعيش فيه، بل هو نظام مازال يعيش فينا. والآن إذا أردنا أن نقيم نهضة حقيقية , فلنمهد لها تربة صلبة أساسها العدل والعلم والقيم العليا ثم نتحد ونجمع حباتها ونرويها بالحب. ولنعلم أن ضوء الشمس هو حزمة من ألوان مختلفة ولم تكن يوما لونا واحدا.