يستدعي النظر في الدور المجتمعي للمثقفين فورا المساهمة المحورية للمفكر الماركسي أنطونيو جرامشي, الذي سجنه موسوليني ما بين عامي1926 و1937, عن المثقف العضوي في عمله الشهير مذكرات السجن. عرف جرامشي المثقف العضوي علي أنه المثقف المرتبط بالطبقة المهيمنة الذي يقوم بوظيفة المفكر والمنظم, للطبقة ولتكوينات المجتمع, ومن ثم يختلف المثقف العضوي عن المثقف التقليدي الذي قد يتصور, خطأ أو زيفا, أنه مستقل عن الطبقة المهيمنة. وبين جرامشي أنه لن يتسني كسر الأغلال السياسية للهيمنة التي تقيد المجتمع كله وتكرس الواقع الراهن إلا من خلال تأسيس هيمنة مضادة تتبلور عندما يصبح للطبقة العاملة ذاتها مثقفها العضويون. هؤلاء المثقفون العضويون للطبقة العاملة يأتون من صفوف الطبقة ذاتها, ويبقون فيها, عاملين من أجل قيام الهيمنة المضادة من خلال الانشغال بالفعل المجتمعي وقيادته. وعليه, فإن مثل هذا المثقف العضوي للطبقة العاملة يزاوج بين النظرية والفعل. وأهم مثل علي هذا الصنف من المثقفين العضويين, في حالة مصر مثلا, هو قيادات الحركات العمالية ذوو الأفق السياسي الأرحب من المطالب النقابية الضيقة. وهذه التفرقة بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي محورية حيث يزعم مفكرون ماركسيون( كاوتسكي مثلا) وجود عداء بين الطبقات العاملة والمثقفين, كشرائح مجتمعية, حيث يعادي غالبية المثقفين, خاصة من ينتمون إلي الشرائح المجتمعية الوسطي, والذين يتبنون قيم المجتمع البرجوازي طبقة البروليتاريا. ويرجع هذا العداء إلي فروق موضوعية, فالعامل الفرد لا قيمة له, ويكتسب هويته وقوته ومستقبله فقط من انتمائه التنظيمي, أما المثقف فيحصل علي موقعه المجتمعي بسبب قدراته الشخصية. كما يميل المثقف, بسبب تعليمه الأوفر, لأن يتصور نفسه أفضل أو أرقي من العامل. وحيث تكون غاية المثقف التقليدي تحقيق ذاته الفردية, يحتقر فكرة إخضاع الفرد لغاية مجتمعية أسمي ما يجعله غير مؤهل للمساهمة الفعالة في الصراع الطبقي للطبقة العاملة. وظيفة المثقف يتفق جمهور الأسماء الكبيرة التي ناقشت موضوع المثقفين علي أن المهمة الأساسية للمثقف تكمن في النقد. المثقف الحقيقي هو المثقف الناقد, الناقد لذاته ولجماعته الأولية, فنقد العدو هو أسهل أنواع النقد وأرخصه, بينما نقد الذات, الفردية والجماعية, هو المهمة والتحدي. ولذا فإن التخلي عن هذه المهمة هو, تبعا لوصف بندا وتوكيد سعيد, خيانة المثقف حيث يخون المثقف دوره النقدي الأساسي. مثقف المستلط ومثقف الشعب في الوطن العربي, جدل قديم جديد حيث لنا تحفظ منهجي مهم علي تطبيق التحليل الماركسي التقليدي علي البلدان العربية, وحيث اختزل الحكم التسلطي في البلدان العربية في ثلة تحتكر السلطة السياسية والثروة تتحلق حول متسلط أوحد عادة ما يمتلك سلطات مطلقة, نري أن بدائل موقف المثقف في البلدان العربية تتمحور حول خدمة المتسلط, ومن ثم ثلته, علي جانب, وبين خدمة المصلحة العامة لجماهير الشعب, ومن ثم النهضة, علي جانب آخر. ويستدعي الجزء التالي مضمون مقال نشرته منذ ربع قرن( مثقف الأمير أم مثقف الجماهير, المستقبل العربي, أكتوبر1984), ردا علي دعوة سعد الدين إبراهيم إلي تجسير الفجوة بين المثقف والأمير, ومازال مضمونه صحيحا إلي حد بعيد. ويمكن اعتبار دعوة تجسير الفجوة صياغة محدثة للدعوة الواقعة لأرسطو للعمل التكاملي بين المثقف والسلطة, علي خلاف دعوة أفلاطون لأن يكون الفيلسوف علي رأس السلطة السياسية. ومن أسف, تجب الإشارة إلي أن الدعوة المذكورة قد انتصرت إلي حد بعيد في المحيط العربي بحيث استشري التحاق المثقفين بخدمة الحكم التسلطي في البلدان العربية, وأصبح صاحب الدعوة نفسه من أشهر المثقفين في البلدان العربية, وأشدهم حضورا في المحافل الثقافية المتعلقة بالمنطقة خاصة تلك المنعقدة في الغرب أو في المنطقة برضا أو برعاية غربية. ومن ثم فإن الجدل حول الدعوة مازال معاصرا في مجال مناقشة دور المثقفين في النهضة في الوطن العربي. عودة لمقابلة مثقف المتسلط بمثقف الشعب, نذكر بمقتطفين دالين علي وجهتي نظر نقيض في موضوع علاقة المثقف بالسلطة. يرجع الأول إلي نيقولو مكيافيللي, أشهر أعلام المثقف الخادم للسلطة والنفعية, في مقدمة كتابه الأمير, من خطاب موجه إلي الأمير. إن الرجال التواقين لنيل رضا أمير يتقدمون له, في كل الأحوال تقريبا, بالأغلي مما في حوزتهم, أو بالأشياء التي يعلمون أنها تسعده بوجه خاص.. والآن, أنا تواق لأن أتقدم لعظمتكم بشاهد علي إخلاصي لكم.. أمور درستها بدأب شديد, ومحصتها لزمن طويل, والآن بعد أن لخصتها في كتاب صغير, أرسلها لفخامتكم. بينما يعود الثاني إلي رائد الإصلاح العربي جمال الدين الأفغاني, قبيل وفاته. وجدير بالذكر أن الأفغاني قد خلص إلي النتيجة المبينة أدناه, بعد أن حاول فعلا الإصلاح من داخل السلطة بنصح أصحابها. يا ليتني بذرت كل حب أفكاري في الأرض الخصب لأفكار الناس, خيرا من تضييع هذا الحب النافع المعطاء في التربة المالح العقيم للسلطة العاجزة, إذ لم ينبت قط ما بذرت في هذه التربة الفاسدة واندثر... إن هيكل الحكم المطلق يوشك أن ينهار, فناضل قدر جهدك لتدمير أسسه, وليس نزع عناصر مفردة له والتخلص منها. ثم نلاحظ أن المثقفين فئة اجتماعية عالية الصوت, وإن كانت قليلة الفعل الاجتماعي, وبخاصة عندما تحتدم الأمور وتتصارع القوي التي تمارس, فعلا, صناعة التاريخ. وقلما تحدثت فئة المثقفين بصوت واحد, ولعل في هذا سر حيويتها, بل قيمتها الاجتماعية, ولكن يحدث في حقب النهوض أن يغلب تيار فكري يتسق مع الموجة الصاعدة صانعة التاريخ, وقد تتعدد الاجتهادات داخل هذا التيار, كما قد تبقي له استثناءات, ويصبح هذا التيار الفكري لحركة التغيير في المجتمع, كحادي القافلة, يفترض فيه أن يوجهها لبر الأمان والرفاه بعد عناء الطريق. غير إنه كم أضل حاد قافلة تبعته بحلاوة هذا الوعد! أما في فترات التردي, وقبيل الأحداث الجسام التي تشكل التاريخ, يشبه المجتمع قافلة ضلت الطريق, وكثر حداتها, وكل يرسم طريقا يوصل للمقصود. ولا مناص من أن تتفاوت معارف الحداة, وتتباين مراميهم. كما تحسن نواياهم وقد تسوء, وإن ساءت النوايا فلا إظهار لها, وإنما أحسن طلاؤها وزين غطاؤها كيما تروق النصائح للسامعين. العبرة بالخواتيم, صحيح ولكن عندما يتعلق الأمر بمصير القافلة, ومن ثم دور الحادي, فلابد من إعمال فكر وتمحيص قبل اختيار الطريق, والتعرف علي الخواتيم نظرا قبل الوصول إلي أحدها فعلا, حتي يمكن تلافي مغبة الاختيار الخاطئ والاهتداء إلي طريق السلامة. وليس أدل علي تضارب دعاوي الحداة في أزمان التردي مثل ظهور البحث المذكور منذ قرابة ربع قرن يتضمن دعوة لإقامة الجسور بين المثقفين والسلطة في الوطن, بحيث تكون هذه الجسور معابر للالتقاء والتفاهم والتصالح. في حين نري أن الدعوة إلي النقيض هي في نظرنا الواجبة. لذا صار واجبا مناقشة دعوة تجسير الفجوة من حيث إنها موقف يطرح علي المثقفين العرب, ولقي إتباعا واسعا, ولن نتعرض للبحث الذي حواها إلا في حدود مناقشة الدعوة ذاتها. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى