إن المثقفين ما كانوا متوحدين أبداً، ولا يطلب منهم ذلك. ويزيد من حدة التمايز بين المثقفين في الوطن العربي حالياً، التوصيف السابق للسلطة القائمة، والذي يستدعي عدم اعتبارهم وحدة، وهم ليسوا كذلك. ونكتفي هنا بالتفرقة بين “مثقف المتسلط” و “مثقف الشعب”. عندي أن “مثقف المتسلط” و “مثقف الشعب” نمطان مثاليان. ولاء الأول للمتسلط ولثلة حكمه، أما ولاء الثاني فللشعب، فيه مبدأه ومنتهاه. ومن ثم، يتوقف مدي احترام “مثقف الشعب” للمتسلط وللسلطة علي مدي خدمتهما للشعب. كذلك يخدم مثقف المتسلط اطراد سلطة أميره. بينما يخدم مثقف الشعب توق عامة الناس إلي الحرية والعدل والمساواة. وعليه، يتضاد “مثقف الشعب” مع المتسلط المستبد الفاسد ومثقفه. كلاهما عضوي بمعني “جرامشي”، ولكن انتماءهما هو إلي أقطاب اجتماعية متضادة، في هذه الحقبة من تاريخ الوطن العربي، مما يفرق بينهما دونما تلاق. وكل مثقف في تصورنا خليط من هذين النمطين المثاليين، قد ترجح كفة أولهما علي الثاني، فيصير المثقف أكثر اقتراباً من نمط “مثقف المتسلط”، والعكس بالعكس. وفي تقديرنا، أن واقع فئة المثقفين في الوطن العربي يقترب من نمط “مثقف المتسلط”. وهذا واقع مر نروم الارتفاع به إلي مطلب نصبو إليه: أن ترقي فئة المثقفين إلي نمط “مثقف الشعب” [1] ونقول أن الشعب ومثقف الشعب يعانون من سطوة الغرب في الخارج والمتسلط في الداخل. وأن المتسلط ومثقفه يتضادان مع الشعب ومثقف الشعب ويتبعان الغرب، وبالقطع هذا تبسيط، ولكنه غير مخل. فما المقصود، إذاً، بالدعوة إلي إقامة الجسور بين المثقف والمتسلط، علي إطلاق الصنفين، في الوطن العربي في الحقبة الراهنة؟ إن “تجسير الفجوة” دليل سلوك لمثقف المتسلط، مؤداه أن يكون ذلك المثقف جسراً للمتسلط يطأه لتحقيق أغراضه، ويستهدف إضفاء شرعيته علي مَثَل “مثقف المتسلط”، ولكنها شرعية ملفقة لا تاريخية تماماً كتلك التي يقوم عليها حكم كثير من المتسلطين في الوطن العربي. إن المؤدي من “الجسور” هو تدويم أوضاع التخلف والتبعية والتجزئة في الوطن العربي في إسار الغرب المهيمن، والمتسلط القامع ومثقفيهم. ولا غرابة، فالجسر بالطبيعة وصل بين ما هو قائم ودعم له، وبالتالي فيه توطيد وتدويم للراهن. أما منظور تجاوز الواقع العربي المر، فيتطلب أن يكون المثقفون حراباً تهتك أستار العفن الكثيفة التي تغلف الوجود العربي في الحقبة الراهنة، توقاً إلي بديل إنساني أرقي للشعب العربي. وهذا دور طليعة المثقفين: مثقفو الشعب. علي عكس الجسور، الحراب اختراق وتجاوز. فما هو موقع المثقفين العرب على متصل المتسلط-الشعب؟ الزعم هنا هو أن غالبية من المثقفين العرب قد خانوا وظيفتهم كضمير للأمة العربية وكطليعة لنضال الشعب العربي من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، والتحقوا بخدمة الحكم التسلطي فأصبحوا هم أنفسهم من أسباب مسار التردي والانحطاط الجالب للهوان في الوطن العربي. وإن استعملنا لغة الجسور، فإن الخبرة تدل على أنه وإن بدأت قلة من مثقفي المتسلط على جسر يبدو ذهبيا، فليس كل ما يبرق ذهبا، فسرعان ما ينحدر مثقف المتسلط إلى الجسر الذي يبدو فضيا ثم إلى الخشبي، إلى أن يلقى به من على ذلك الأخير عندما يفقد مصداقيته بين الناس لطول استعمال الحكم التسلطي له، وبلاء قدراته على التدليس على الشعب، ويصعد الجسور آخر من مثقفي المتسلط الجدد. ------------------------------------------------------------------------ [1] مّما يجعل الدعوة إلى “تجسير الفجوة” مثيرة للدهشة. مواضيع ذات صلة 1. د.نادر فرجاني: خيانة المثقفين في الوطن العربي، بالتركيز على حالة مصر 2. حسين عبد الرازق يكتب: انتخابات مجلس الشعب بين المشاركة والمقاطعة 3. إنفراد : وثيقة برلمانية نادرة تبطل عضوية دكتور زكريا عزمي في مجلس الشعب