د. أحمد درة يظل أي حوار علي هذه الأرض انعكاسا لأعلي حوار حدث في السماوات العلي، فلم يستح الله جل جلاله ان يضرب مثلا لذلك الخليفة المرشح لعمارة الأرض بكل اجياله، وأن يبث هذه الرسالة في كتبه السماوية المرسلة لأهل الأرض عبر الانبياء والرسل، آخرها القرآن الكريم، وفيه خلاصة فكر الحوار. وفي سياق بديع، بدأ الخالق العظيم في توجيه الخبر إلي فصيل من خلقه جبلوا علي الطاعة فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، »اني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك«.. ولم يغضب الله الذي تعرف الملائكة عظمته وقوته وقدرته غير المتناهية، وبادرهم »اني أعلم ما لا تعلمون«، هذا هو الدرس الاول الذي تعلمه الوعي الملائكي في السماء، وبعد آلاف السنين دعاه العقل البشري وادرك ان الحوار هو أبدع وأعظم ما وهب الله للانسان علي الأرض. وفشلت الملائكة في الاختبار الحقيقي للعلم والاحاطة بالاشياء وتأكدوا ان أي مخلوق محدود المعرفة والعلم وانه بغير الانتساب لخالقه سوف يفشل ويضيع ويمكن ان ينتهي إلي اسوأ العواقب اذا هو أصر علي التكبر والتعالي بغير الحق. وبعد أن اقتنعت الملائكة بحكمة الخالق العظيم وسلموا برضا واطمأنوا قالوا: »سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا«، ومن هنا بدأ الدرس يمهد لحوار أشد وطأة، وأكثر تعقيدا لانه يتعلق بصراع سوف يدوم علي الأرض إلي أن يشاء الله له ان ينتهي، ذلك الحوار الذي دار بين مخلوق من صنف آخر كان يضمر احتجاجه علي خلق آدم ابي البشر ويستكثر عليه المكانة التي اعدها الله له في الدنيا والآخرة، فعندما انتهي الخالق العظيم من تصوير آدم والنفخ فيه من روحه أمر أهل السماء من الملائكة وكل من تواجد في هذه اللحظة بالسجود لآدم، فاستجاب الجميع طاعة لله إلا أبليس الذي كان من الجن، فكان سؤال المولي عز وجل ما منعك يا ابليس ان تكون من الساجدين، هذا حوار من نوع جديد، الله يعلم لماذا لم يسجد ابليس لآدم، ويعلم ما يكن من حقد دفين عليه ولكنه اراد ان يقيم عليه الحجة من كلام ابليس نفسه ليعلم خلق الله جميعا ان الله لا يظلم احدا، منحه جل في علاه فرصة الدفاع عن نفسه، فأخذها واستكبر وزاد في عناده، »أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين«، كيف اسجد له؟ ولم يفهم ابليس الرسالة ولا وعاها ولكن البشرية تعرف الآن جميعا ان هذا الحوار قد اقام الحجة والبرهان علي غباء ابليس وانحطاط دواخله وان الغرور قد بلغ منه مبلغا اطاح به من جناب القرب والاصطفاء الي النبذ واللعنة، فصار في لحظة مطرودا من رحمة الله. لقد علمنا الله العدل كيف تكون الحجة ولو كانت بين الخالق والمخلوق، وكيف للكبير يسجح ان سبح في حواره مع الاضعف والادني فلا يتهدده أو يغلق في وجهه أبواب الأمل إلا اذا امعن هذا في استكباره بغير الحق وعناده. ومن خلال آيات عظيمة وقصص القرآن استمرت العناية الالهية في تنبيه الانسان إلي ضرورة الحوار واظهار الحقيقة بالكلمة الطيبة وهدوء الاعصاب، والنزول علي الحق اذا اظهره الله علي لسان من يباريك حتي ولو كان عدوا لك. وساق لنا قصة اعتي ديكتاتور علي الأرض بعد ادعائه الالوهية وطلبه الي الناس ان يعبدوه، اذ قال »أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي«، وجاءه نبي الله موسي بأمر من الله، »اذهب الي فرعون انه طغي«، ودار بينهما حوار تاريخي بدأه فرعون بسؤال استنكاري، ألم نربك فينا وليدا، وسأله من ربكما له ولهارون اخيه، واخذ موسي يشرح بصدق من هو الله الذي يدعو إليه الفرعون ليؤمن به، وانتهي هذا الحوار المشهود إلي اقامة الحجة وجمع السحرة وحشر الناس ضحي ليشهدوا البرهان الذي سيحسم هذه المناظرة، من غلبة لسحرة فرعون أو غلبة لموسي وحجته، هذا نوع من الحوار الذي يعلمنا الحق به كيف يكون المؤمن صبورا وموقنا من رسالته وطويل البال مع مخاصميه ومنكريه، ولذلك ليس من الحق ابدا ان يبادر صاحب الرسالة وصاحب القضية الي شن هجوم علي أي طرف يناوئه أو يعارضه، إلا ان يقيم عليه الحجة بما يؤكد هذا المفهوم العظيم للحوار الذي كفله خالق الكون لكل خلقه في أشد القضايا والمسائل العويصة مهما كان غورها وصعوبة الخوض فيها. عمر سليمان.. بين يدي رب غفور أول وآخر مرة شاهدت فيها اللواء عمر سليمان رحمه الله كانت في المسجد المقابل لفندق فلسطين بالمنتزة في صيف عام 9002 حيث ادي صلاة الجمعة وصادف ان كنت بجانبه ولم تكن معه حراسة أو غيره، وانصرف في هدوء وانصرفت انا لاستكمال المؤتمر الطبي الذي كنت احضره بالفندق. تذكرت هذا المشهد، وتذكرت موقف رسول الله صلي الله عليه وسلم من جنازة اليهودي الذي مرت من أمامه فوقف لها، وقيل له انها جنازة يهودي قال: أليست نفسا.. وتذكرت ايضا الخليفة العادل عمر بن الخطاب وهو يسأل عمن قتله وهو يعاني جراح الموت فقيل له أبو لؤلؤة المجوسي فقال الحمد لله الذي جعل موتي علي يد رجل لم يسجد لله سجدة ليحاجني بها يوم القيامة أمام الله. واسوق هذا رغم ان عمر سليمان لم يخرج عن دينه ولم يخرج علي وطنه وكان يؤدي عمله كأي حرفي وجب عليه ان يكون حازما وصارما، وهو بين يدي الله الآن مات مسلما موحدا بالله له ما له وعليه ما عليه، رحمه الله رحمة واسعة وتجاوز عن سيئاته وغفر له.