أستأذنك صديقي القارئ في أن أطل عليك هذه المرة من وراء النافذة، أختلس مساحة ليست لي، وإطلالة ليس هذا موعدها. لا يشق علي نفسي سوي الإحساس باقتناص الأدوار أو اختلاسها. لكن نفسي هدأت حين عرفت أن صاحبة المكان الأستاذة الكبيرة حسن شاه -شفاها الله وعافاها - أوصت بحلولي مكانها اليوم حتي تتجاوز بإذن الله الأزمة الصحية التي ألمت بها، ، وتعبر- بحول الله وقوته - نهر أحزانها لوفاة شقيقها الأصغر كي تعود مضيئة ومتوهجة الي دارها وقرائها الأعزاء. مطلوب رجال دولة في يومياتي التي نشرت الأسبوع الماضي خاطبت رئيساً لم نكن نعرفه ولم تكن تسميته قد أُعلنت بعد. وذكّرت الرئيس الآتي - أياً من كان - بأنه لا يمتلك الأغلبية المريحة التي تمكنه من الاستئثار والتسيد والجلوس مطمئناً علي كرسي الحكم. كانت هناك مخاوف لدي قطاع كبير من جمهور الناخبين من أداء وخلفيات كلا المرشحَيْن المتنافسَيْن. أمّا وقد فاز الدكتور محمد مرسي فوزاً ساهمت الصدفة والظروف العامة للبلاد في جعله تاريخياً ، فقد تضاعفت مسئوليته أمام الشعب المصري ليثبت جدارته بلقب"الرئيس المنتخب" الذي نردده علي ألسنتنا للمرة الأولي في تاريخنا. أهم ما يقلق الكثيرين من ناحية الدكتور محمد مرسي هو ضرورة الفصل الواضح وبلا مواربة بين رئاسته للمصريين جميعاً، وبين ارتباطه الأيديولوجي بالإخوان المسلمين وتبعية قراره لمرشد الجماعة.لا يكفي هذا الكلام المخدّر الذي ذكره الرئيس المنتخب عن المرشد بأنه فرد ومواطن عادي، ولايكفي تصريح المرشد بأنه سينادي الدكتور مرسي ب" سيدي الرئيس". أتوجس شخصياً لأنني مازلت أذكر كلام الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان في مقابلة تليفزيونية بأن منصب المرشد أهم من منصب رئيس الدولة. ربما كان يقصد - وهو محق في هذا - ان السلطات التي يتمتع بها المرشد تتجاوز حدود صلاحيات رئيس الدولة وتتسع لتشمل نفوذاً عالميا علي كافة فروع تنظيم الإخوان المسلمين المنتشرة في أرجاء المعمورة. إن كان فهمي لكلام المرشد صحيحاً فمن الواجب ان يبدأ الرئيس المنتخب فعلياً في إجراءات بناء الثقة وأن يُعلي قيم الوطنية فيتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين داخل مصر تعاملاً قانونياً يخضعها لقانون البلاد ونظامها العام، شأنها في ذلك شأن أي جماعة دعوية أو جمعية أهلية أخري. الإفصاح مطلوب ومن غير المنطقي ان يتشبث الإخوان بسرية حساباتهم وميزانيتهم التي يعتبرونها قدس الأقداس ولاينبغي المساس به، وهم الذين طالبوا يوماً بالإفصاح عن ميزانية القوات المسلحة. لايكفينا أيضا إعلان استقالة الرئيس المنتخب من جميع مناصبه في جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، فهل استقال من عضويتهما؟ أم انه مايزال عضواً بكليهما او بأحدهما، لكنه فيما يخص المناصب يكتفي برئاسة البلاد؟ العضوية - كما لايخفي- تلزم صاحبها بالخضوع لآليات المكان، ولوائحه الداخلية، وقواعده حتي لو كانت عضوية نادٍ رياضي، ونحن نريد رئيساً حراً خالصاً من أي قيد أو التزام سوي بالمصلحة العامة وقانون البلاد. نتوقع أيضا من الرئيس ان يفك الاشتباك الحاصل بين قيادات حزب الحرية والعدالة الذين يتبرعون بالحديث باسمه وعنه، ويبادرون الي توضيح ما يغمض من كلامه وتصحيح ما قد يزل به لسانه بل وتوجيه التطمينات لغير المحجبات بتصريحات منسوبة للحزب لا للرئيس . عليه ان ينتقي شخصاً أو مجموعة تحسن التعبير عن مواقفه وتوجهاته، ويختار لهذه المهمة من يتمتع بالحنكة السياسية والدقة العلمية وسعة الاطلاع في مجالات الاهتمام المتعددة، وألا يكتفي بخبراء البلاغة والإنشاء. مطلوب البحث عن رجال دولة محترفين يحيطون بالرئيس. تكلم لأعرف من أنت غالباً ما تصدق هذه المقولة. ولهذا كان من الضروري ان نستمع للرئيس المنتخب الذي لم نعرف عنه الكثير، فلم يكن من الوجوه المألوفة سوي لدي أنصاره.ولأنه لم يكن لديّ ما يكشف عن طبيعة الشخص سوي برنامجه الانتخابي الذي أسماه "مشروع النهضة"، فقد بدأت أراقب الأداء الخطابي للمرشح د. محمد مرسي وطريقته في التعبير عن نفسه في البرامج التليفزيونية المختلفة، ثم أخيراً في كلمته الأولي للأمة عقب فوزه بالرئاسة وما تلاها من تصريحات متناثرة. واعترف انه ألقي بهذه المناسبة خطاباً عاطفياً مؤثراً وبسيطاً الي أقصي درجة، ابتعد فيه عن التعقيد ربما ليصل الي قلب كل فئات المجتمع وقد ذكرهم بالإسم وكأنه أجري مسحاً شاملا لكل المهن والفئات الموجودة واختص تلك الفئات الأكثر فقراً.. حتي سائقي التوك توك والباعة الجائلين كان لهم نصيب في خطابه. وقد أدي هذا الي تعرضه لكثير من الانتقادات والتهكم، لأن نخبة هذا البلد وجدوا ان خطاب مرسي لم يرق الي مستوي طموحاتهم. ومع انني كنت " ولله الحمد" من المبطلين لأصواتهم في جولة الإعادة، يعني لست من المعجبين به أوالداعين له، إلا انني أشفقت علي الرجل، ورأيت أن من حقه - وقد أصبح الفائز- ان يحصل علي فرصته للوصول الي الجماهير، لاسيما وأن كل الأصوات تطالبه بالتطمينات. جاء خطابه تصالحياً، وعفوياً بقدر كبير. وحاول الرئيس المنتخب ان يقدم في تصريحاته التالية عدداً من التطمينات بخصوص الأسئلة الشائكة والمقلقة النابعة من خلفيته الأيديولوجية الإسلامية. ولكي يبدد المخاوف نفي احتمال فرض الحجاب، وعدم تقييد او حظر عمل المرأة، وأكد علي حرية الصحافة وعدم إغلاق أي جريدة، ثم عن حرية الإبداع "المنضبطة"!. قد يكون في كلام الرئيس المنتخب ما يطمئن، لكن بين ثناياه ثمة ما يبعث علي القلق. ليس فقط لأن مايعلنه يتعارض مع قناعاته المحافظة المعروفة لكن، أيضاً - وياللعجب- لأننا مازلنا أسري تجارب الماضي البغيض. نسمع شعار الرئيس السابق " لن يُقصف قلم في عهدي" ونجد صحفاً تُغلق بالكامل، ويُشّرَد صحفيوها فقط لأنهم كشفوا عورات النظام. وليس أبلغ من جريدة الشعب مثالاً صارخا لهذا التناقض. نسمع شعار"لا احد فوق القانون" ونجد فئات بالكامل تتمتع بالاستثناءات والامتيازات وتتغول علي باقي الفئات. نسمع شعار "استقلال القضاء" ونجد أحكاماً قضائية يحكمها الهوي وتوجهها المواءمات. بهذه المناسبة أعجبتني العبارة التي وصف بها المستشار محمود الخضيري حال القضاء حين قال : "لدينا قضاة مستقلون وليس لدينا استقلال للقضاء". لماذا عاودتني هذه الصورة البغيضة الآن؟ لأني شممت نفس رائحة كلام النظام السابق. سيدي الرئيس" دعني أصارحك القول: لقد مللنا من الكلام، والربت علي الأكتاف، والتحدث بلغتين، والتملق الي بعض الفئات وإطلاق الحبل علي الغارب لها، إما خوفاً منها أو استغلالاً لها كي تصبح هي ركيزة جماهيرية السلطة الممقوتة دوما. التعاطف مع الفئات المهمشة وسكان العشوائيات ومراعاة مطالبهم، أمر حميد ومطلوب لاستكمال مسيرة التنمية والنهضة لكن ما أخشاه ان تتحول تلك الرعاية الي إكسابهم حقوقاً ومراكز قانونية تتعارض مع النظام العام وقد تشيع الفوضي. كل هؤلاء ينتظرون منك ان تثبت اوضاعهم،وأن تقننها، لا أن تصلح من شأنهم. سائقو التوك توك والباعة الجائلون الذين اعتدوا علي حرم الشوارع واستلبوا الخدمات من المرافق العامة، هل يقبلون ترك اماكنهم والانتظام في اسواق أو مواقف وخطوط سير وتعريفة ركوب محددة؟ منطقة بولاق أبو العلا مثال صارخ علي هذه الفوضي الضاربة، وهي من المناطق التي تعد من معاقل حزب الحرية والعدالة وسكانها من أشد مؤيديك. فكيف سترد لهم الجميل؟ مشروع النهضة ورئاسة الحكومة حين قرأت مشروع النهضة الذي يتخذه الرئيس المنتخب بمثابة برنامجه الحضاري الذي ينوي الشروع في تنفيذه للانتقال بمصر الي مصاف الدول المدنية الحديثة فوجئت ان تحقيقه يستغرق 16 عاماً أي أنه علينا ان ننتظر حتي عام 2028 كي نحصد ثماره، ربنا يمد في عمرنا وعمركم. هذا يعني أن مشروع د. مرسي، أو بالأحري مشروع الحرية والعدالة يبعث برسالة للمصريين مفادها " لو أردتم تذوق الرحيق عليكم ان تقبلوا بحكمنا للبلاد لأربع فترات رئاسية قادمة!" سواء مع مرسي او مع غيره. ولاحظت ان مشروع النهضة خلا من أية أرقام احصائية، او بيانات تفيد بناءه علي أساس علمي سليم أو بعد بحث وتمحيص ودراسات معمقة لمشكلات مصر، كما خلا من آليات تنفيذه. كل ما ظهر في هذا المشروع ذي المحاور السبعة هو رؤوس موضوعات وكأنه مجرد تشخيص لاحتياجات مجتمع شمعي دون تقديم العلاج او كتابة الروشته ومعرفة تكلفة الدواء. معالجات ينقصها الخيال والابتكار في ايجاد الحلول او التعبير عن المشكلات. ماذا عن ترتيب الأولويات؟ ماذا عن الجدول الزمني للهام والعاجل من القضايا التي تستحق الإسعاف؟ ماذا عن خطط الفترة الأولي من رئاسته؟ كل هذا غاب عن المشروع ربما باعتباره طويل المدي،لكنك لو بحثت عنها ستجدها علي موقع الحرية والعدالة أيضاً فيما سمي بخطة المائة يوم الأولي. وكنت اتمني ان اسمعها علي لسان الرئيس المنتخب، وان يسهب في شرح رؤيته إن وجدت. هنا أتساءل كيف سيتمكن الرئيس مرسي من اقناع الحكومة الائتلافية التي يعدنا بها بتحقيق أهداف المائة يوم الأولي من حكمه؟ ومن ذا الذي سيقبل برئاسة الحكومة؟ وهل سيلغي رئيس الحكومة القادم كل عقله وخبراته ووجهات نظره ليكرس كل مواهبه لتنفيذ خطط الحرية والعدالة؟ لقد راجت في بورصة الترشيحات عدد من الأسماء من ابرزها الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء السابق في حكومة د. عصام شرف لكن سرعان ماهبطت اسهمه لترتفع اسهم الدكتور محمد البرادعي كمرشح لرئاسة الحكومة الأمر الذي يثير كثيرا من علامات الاستفهام والتعجب. ولو صحت هذه الأنباء لكان ذلك مؤشراً مبكراً علي صدام جديد آت من بعيد. من المؤكد ان الدكتور البرادعي لديه خطط ورؤي خاصة به ومن غير المتصور كيفية الجمع بين منهجين متقاطعين في التفكير، القاسم الوحيد المشترك بينهما هو صدق الرغبة في خدمة الوطن. ولا اتصور حتي لو قبل الدكتور البرادعي عرض رئاسة الوزراء أنه سيتمكن من الصمود والبقاء في الحكومة.ومن يراقب اسلوبه في الأداء طوال الفترة الماضية منذ بداية الثورة ورغبته الدائمة في البدء "علي نظافة" والعمل في بيئة سياسية " معقمة" تحوي من الضمانات ومضادات العقبات ما يتيح له العمل بصفاء ذهن سيدرك انه من الصعب خلط الماء بالزيت. نحن محتاجون لحكومة إنقاذ سريع تعمل في ظروف تصحر سياسي قاسية، يجمع التفاهم بين أفرادها كي تنجح. ولهذا أشك في فرص هذه الشراكة التي يحاول المجلس العسكري ان يقوم فيها بدور المأذون. المطابع الأميرية أتخيل الوالي محمد علي باشا وقد ركب آلة الزمن وسار بها للأمام قرنين إلا اثني عشر عاماً ونظر من علٍ يبحث عن المطبعة التي أنشأها في بولاق عام 1820فلم يجدها في مكانها، حتي عرف انها أصبحت تسمي فيما بعد " المطبعة الأميرية" وانها انتقلت من آخر مكان تركها فيه ليصبح مقرها في القرن الواحد والعشرين في امبابة وانها لم تعد مطبعة واحدة بل اصبحت هيئة للمطابع الأميرية هل كان يمكنه التنبؤ بما سيؤول اليه مصيرها؟ في كتاب الدكتور اكمل الدين احسان أوغلو الذي كتب له المقدمة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بعنوان "الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي" تجد بضع صفحات مهمة وشيقة عن مطبعة بولاق التي اصبحت فيما بعد المطابع الأميرية. أوغلو توصل الي ان اول كتاب صدر عن هذه المطبعة هو " كتاب نامهء سفرية" اي "وصايا عسكرية" وقد وجد علي صفحته الأخيرة انه صدر عام 1238 هجرية أي منتصف شهر ديسمبر 1822 م في دار الطباعة التي أنشئت في "بولاق ميناء مصر المحروسة". المعروف ان هذه المطبعة كانت تطبع الكتب العسكرية للجيش ثم تطورت لتطبع الكتب الأدبية والعلمية والمدرسية. في كتابه يحكي أوغلو ان محمد علي أرسل السوري نيقولا المسابكي الي ايطاليا عام 1815 ليدرس هناك فن الطباعة وليصبح مسئولاً عن شراء الآلات وصيانتها وإصلاحها وتدريب عمال الطباعة، وقد تم صب حروف المطبعة العربية والتركية واليونانية والإيطالية في ميلانو، وان محمد علي باشا كان يتابع عمل المطبعة وماتصدره من كتب بواسطة عثمان نور الدين ناظر مهندسخانة مصر وكان تركي الأصل. وقد ظلت المطبعة تعمل هناك في بولاق الي ان انتقلت الي مكان آخر بالقرب من "الترسانة" عام 1928. أما التاريخ المتأخر قليلاً فتجد لمحات عنه في الموقع الأليكتروني لهيئة المطابع الأميرية لتفاجأ بمعلومات قيمة إذ قدم الخديوي سعيد باشا المطبعة في أكتوبر 1862م هدية إلي عبد الرحمن بك رشدي، ثم اشتراها الخديوي إسماعيل باشا وضمها إلي أملاك الدائرة السنية، حتي عادت ملكا للدولة في 02/6/0881م وذلك في عهد الخديوي توفيق، أما حديثا في التاريخ المعاصر فقد أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 13 أغسطس 1956 قرارا بقانون يقضي بإنشاء الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، وإلحاقها بوزارة الصناعة برئاسة الدكتور عزيز صدقي، وزير الصناعة آنذاك ، ومنذ ذلك التاريخ قررت وزارة الصناعة إقامة مبني جديد للهيئة في منطقة إمبابة علي مساحة قدرها 35000 متر مربع تقريبا .