كان وسيما وقسيما يمشي بين الناس طروبا.. وذيول الثوب علي الارض يجرّْ. والثوب حريراً كان وديباحاً.. يضع يديه عليه فيستخشنه.. حتي يلبسه إن يلبسه مضطرّ.. نشأ شديد الأنفة.. يمشي الخيلاء.. يكاد من التيه بمشيته المعروفة بالعمرية أن يتبختر. حتي شاء الله له أن يقع علي الأرض بذات نهار في إصطبل خيول أبية.. لكي يرفسه في الجبهة مهر.. شُجت جبهته شجاً.. سال الدم مدراراً.. واخوه يصيح: لقد ظهرت شامتك.. لعمري انت أشج أمية.. وأشج قريش الموعود برؤيا الفاروق عمر. أصبح مكتمل الآلاء الآن.. وصار علي المستقبل أن يتجهز للراشد خامس خلفاء رسول الله.. وصار علي عمر الأموي المترف أن يتغير. قربه »عبدالملك« العم - واحد الخلفاء الأمويين - وزوجه لابنته المحبوبة »فاطمة«.. وكان يفضله.. ويراه أشجَّ بني مروان.. واحراهم بالامر. عاتب »عبدالملك« بنوه.. فقال لهم: هذا ما سوف يلي يوما حتي يملأ بالعدل الأرض المملوءة بالجور. كان العم الملك الأموي يحس بوزر الحكم الظالم.. وهو الحاكم لا يقدر أن يرفع عن عاتقه هذا الوزر. فالسلطة كأس من خمر مزمنة يتجرعها ان لم يحترس السلطان بحفل التتويج.. فيسري في اعصاب يديه ورجليه إلي اخر يوم فوق العرش خَدَر. والسلطة سحر ان لم يقو السلطان عليه سيبقي دوما مسحورا مكتوف العقل.. ومعتقل الاكتاف.. يعاني من اثار السحر. هذا ما كان الخلفاء الامويون عليه ضعافا دون ذواتهمُ.. مقهورين امام رغائبهم.. ويرون لأمتهم حقا في رقبتهم غير القهر. كان الماضي الساطع اقرب من ان يتجاهل.. والحاضر دنيا حاضرة.. والدين غريبا يطرق ابواب الدور.. كما يفعل ليلا ونهارا الغفاريُّ أبو ذرّْ. كان الخلفاء الامويون لهم عين ترنو للآخرة وتقصر عنها.. والاخري غائرة في الدنيا.. تسبر فيها الاغوار جميعا غورا غور. كانوا مزدوجي الميل.. الدنيا دانية دونهم.. والدين بأيديهم متقد كالجمر. بدأ »معاوية« بمحاربة »علي«.. و»يزيد بن معاوية« بقتل »حسين بن علي«.. ومضي خلفاء امية بالتنكيل بآل البيت.. وسبهم فوق المنبر.. اغتصبوا الحكم.. وصار الملك عضوضاً يتوارث.. والمال لهم لا لخزانة بيت المال واصبحت الشوري ذكري.. وحقوق الامة في بيت المال حقوقا لا تذكر. اغتصب الراعي كلا رعيته.. ملئت ارض الأُمَّة جوراً.. فتساءل قراء التاريخ: اذن اين عمر؟ الآن »سليمان عبدالملك« ابن العم واخر خلفاء الامويين قبيلك - ياسبط الفاروق يموت.. وكل بنيه صغار قُصَّر. استعرض طابور الابناء .. ومعه ناصحه الثقة »رجاء«.. كانوا لا يقوون علي حمل الدرع.. ولم يكُ للسيف بساعد احدٍ منهم أن يُشهر. سأل »سليمان« ان ينصحه حتي يعقد عقداً لا يصبح للشيطان نصيب فيه اشار عليه الرجل الصالح ان يوصي لابن العم عمر. كتب كتاباً مطوياً يوصي فيه لعمر ومات.. فسار »رجاء« للمسجد.. يدعو امراء امية لمبايعة ولي العهد المحجوب الإسم.. وكلهُم مشتاق ان يقتعد الكرسي ويفترش الإمرة إلا »عمر« الخاشي كل الخشية لو آل اليه الامر. ويصير الامر إليه.. فيبكي إشفاقاً.. حتي يسقي بالدمع الهاطل لحيته.. حتي ينبت في لحيته الشابة بعض الشعر الاشقر. يدعو الداعي ان يتحدث »عمر« إلي الناس.. فيهتز.. وينشج.. ويدس الرأس المهموم فيما بين الركبة والركبة.. ويغيب عن الاحداث طويلا ويفكر. يتساءل مرتج الخاطر.. مضطرب الوجدان.. شتيت البال.. شقي القلب.. قصي الروح: تراه علي حمل المسئولية يقدر؟! ويقوم إلي الناس.. وفيهم من امراء امية من افجعه ان صار الامر إلي سبط الفاروق.. ومسَّته الغيرة فتحسَّر. يصعد »عمر« إلي المنبر.. ثم طويلا يجلس لا يتكلم.. لا يتحرك.. تمسكه الرهبة.. يتولاه الذعر. والناس جميعا اذن مصغية واحدة.. خُلقت من شغف.. والعصب السمعي الجمعي لكلمته الأولي متوتر. يبدأ »عمر« خطاب خلافته الأول.. فيقول: أراني من غير مطالبة مني.. وبدون مشورتكم.. اخترت لهذا الأمر.. ولهذا فأنا أخلع ما في رقبتكم من بيعتكم لي.. فاختاروا من انفسكم تتخيَّر. دُهش الناس.. تراوحت الدهشة بين الجنبات.. فلم يتعود احدُُ منهم أن يختار.. فقد كان الملك الأموي عضوضاً.. والحكم وراثياً.. والشوري غائبة.. وأمام المحكومين طريق لا خيرة فيه سوي الجبر. ولنا في سيرة عمر بن عبدالعزيز بقية.