[327] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار... [التوبة:40] هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم الثلث الأول من سورة التوبة, وهي سورة مدنية, ومن طوال سور القرآن الكريم, إذ يبلغ عدد آياتها مائة وتسعا وعشرين(129). وهذا مما يجعلها سادس أطول سور هذا الكتاب المجيد; وهي من أواخر ما أنزل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ أنزلت في السنة التاسعة من الهجرة. وقد سميت السورة باسم التوبة لورود هذه الكلمة ومشتقاتها في اثنتي عشرة آية من آياتها; كما سميت باسم براءة, وهي الكلمة التي استهلت بها, وعرفت هذه السورة باسم الفاضحة, والمخزية, والمثبرة( أي المهلكة), والمنكلة, وسورة العذاب, وذلك لفضحها المنافقين, الذين أنذرت بهلاكهم والنكال بهم, ووصفت عذابهم في الدينا والآخرة, كما سميت باسم المحفزة أو الحافزة لتحفيزها المؤمنين علي الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء دينه. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة التوبة, وما جاء فيها من التشريعات الإسلامية, وركائز العقيدة, والإشارات الكونية, والدلالات التاريخية والإنبائية, ونركز هنا علي التوثيق التاريخي لهجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم وبصحبته سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما يسجله النص القرآني من هذه السورة المباركة الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال. التوثيق التاريخي في النص الكريم يقول ربنا تبارك وتعالي في محكم كتابه: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم( التوبة:40). وهذه الآية الكريمة توثق توثيقا تاريخيا دقيقا لمرحلة من مراحل هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهما مختبئان في غار ثور, وكفار ومشركو قريش يطاردونهم في كل بقعة من أرض مكة بعد أن كانوا قد تأمروا عليه وانتمروا به, وقرروا التخلص منه إما بالسجن حتي الموت, أو بالقتل بأيدي ممثلين لجميع بطون قريش حتي يتفرق دمه بين القبائل, أو بالنفي الكامل من أرضه, فأطلعه الله سبحانه وتعالي علي ما ائتمروا به, وأوحي إليه بالخروج, فخرج هو وصاحبه الصديق الذي حمل معه كل ما بقي عنده من مال, حتي لجآ إلي غار ثور إلي حين هدوء حملة قريش المذعورة في تقفي أثرهما ومحاولة اللحاق بهما. وتسجل كل من كتب السيرة وكتب التاريخ أنه في فجر يوم الجمعة الموافق27 من شهر صفر سنة14 من البعثة النبوية الشريفة( الموافق622/9/13 م) هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من مكةالمكرمة في طريقهما إلي المدينةالمنورة انصياعا لأمر الله تعالي بعد ثلاث وخمسين سنة قضاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في مكة, ولم تكن هجرته فرارا من الاضطهاد, ولا بحثا عن الأمن, ولكن استعدادا للجهاد في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته في الأرض, وإقامة دولة الإسلام في يثرب. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد أعد ناقتين للخروج, ودليلا للطريق, وأمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول القرشيون فيهما طيلة النهار, ثم يأتيهما إذا أمسي الليل بما يكون من أمر المشركين, وما يدبرون من كيد لرسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه. كذلك درب ابنته أسماء رضي الله عنها علي حمل الزاد من الطعام والشراب إليهما في الغار, ثم تعود مع أخيها إلي مكة قبل طلوع الفجر. وأمر الصديق رضي الله عنه خادمه ومولاه عامر بن فهيرة أن يرعي الغنم في اليرق بين مكة وجبل ثور, ليعفو علي آثارهما وعلي آثار المترددين عليهما في الغار. وليلة الهجرة النبوية الشريفة, قام أحد عشر شابا من كفار ومشركي قريش بتطويق بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم في محاولة لرصد حركته حتي نام, وعند منتصف الليل قام ليأمر عليا بن أبي طالب رضي الله عنه بالنوم في فراشه وكلفه برد أمانات الناس المودعة عنده, وخرج صلي الله عليه وسلم من داره بعد منتصف الليل, وشباب قريش محيطون بالدار وهم متوشحون سيوفهم ينتظرون تنفس الصبح ليضربوا عنق رسول الله صلي الله عليه وسلم عند خروجه عليهم ضربة رجل واحد, كي يعرف الجميع أن كل قبائل مكة قد اشتركت في إراقة دم رسول الله صلي الله عليه وسلم , ولكنه خرج مخترقا صفوفهم دون أن يشعروا به, فقد أغشي الله أبصارهم فلم يدركوه, وأخذ صلي الله عليه وسلم ينثر التراب علي رؤوسهم وهو يتلو قول الحق تبارك وتعالي وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون( يس:9). وبعد مغادرته داره تحرك رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي دار أبي بكر ثم انطلقا في رحلة الهجرة المباركة إلي غار ثور, وشباب كفار ومشركي قريش مرابطون حول داره صلي الله عليه وسلم حتي يئسوا من خروجه عليهم, فبدأوا ينظرون من ثقب الباب فيروا شخصا ينام في فراش رسول الله صلي الله عليه وسلم ومتسجيا ببرده الحضرمي الأخضر, فظنوا أن رسول الله لا يزال نائما, فاطمأنوا حتي طلع الصبح, وخرج عليهم علي كرم الله وجهه فتبين لهم أنهم قد باءوا بالفشل والخسران والندم. تحرك الرسول وصاحبه في اتجاه الجنوب من مكةالمكرمة تمويها علي مشركي قريش الذين يعرفون أنه صلي الله عليه وسلم خرج يقصد المدينة إلي الشمال من مكة, وسارا لمسافة عشرة كيلو مترات علي أقدامهما حتي وصلا إلي جبل ثور وأبو بكر مشفق علي رسول الله صلي الله عليه وسلم خائف عليه من أن تلمحه عين راصد, فتارة يمشي أمامه, وتارة يأتي خلفه, وثالثة يمشي علي يمينه, ورابعة علي يساره, فسأله رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سبب ذلك, فقال أبو بكر: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك, ومرة عن يسارك, لا آمن عليك. وكان جبل ثور صعب المرتقي, كثير الأحجار, شامخ الارتفاع, فصعداه بصعوبة شديدة حتي وصلا إلي فم الغار, وهم النبي بالدخول إلي الغار فسبقه أبو بكر قائلا: لا تدخل يا رسول الله حتي أدخله قبلك, فإن كان فيه شيء أصابني دونك. ودخل أبو بكر الغار أولا, ودار علي جوانبه يتفحصها, فوجد فيها عددا من الفتحات فشق ثوبه إلي قطع صغيرة, وبدأ في سد تلك الفتحات بها, وبقيت فتحتان متجاورتان لم يبق من قطع ثوبه شيء ليسدهما به, فوضع قدميه عليهما خشية أن يكون بهما من الهوام ما قد يؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم نادي عليه فدخل وهيأ أبو بكر حجره ليضع رسول الله صلي الله عليه وسلم رأسه عليه, فجاء ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام من شدة الإجهاد والتعب. ثم فوجئ أبو بكر بحية في أحد الجحرين اللذين سدهما بقدميه تلدغه في إحدي قدميه, فتحامل علي نفسه, ولم يحرك قدمه حتي لا تخرج الحية فتؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم ولكن زاد عليه الألم فبدأ يبكي بكاء مكتوما كي لا يوقظ الرسول من نومه, ولكن سقطت بعض دموعه رغما عنه علي وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم فتنبه واستيقظ قائلا: مالك يا أبا بكر؟ فقال: لدغت فداك أبي وأمي, فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم بمعالجة مكان اللدغة فشفيت, وذهب الألم الذي كان يجده أبو بكر. وعندما طلع الفجر ووصل نور الصباح إلي داخل الغار لاحظ رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أبا بكر لا يلبس ثوبه الذي خرج به من داره, فسأله النبي عنه فأخبره بأنه قد مزقه ليسد به جحور الغار خوفا عليه من الهوام, فرفع النبي يديه إلي السماء وقال: اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة. شمر كفار ومشركو قريش عن سواعدهم في طلب رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه, وجندوا كل إمكاناتهم في سبيل تحقيق ذلك, وأعلنوا عن مكافأة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلي قريش حيين أو ميتين كائنا ما كان. وطمعا في المكافأة جد كل من الفرسان وقصاصي الأثر في طلب رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه, وانتشروا في الجبال والوديان من حول مكة حتي وصل المقتفون للأثر إلي باب غار ثور, وقال أحدهم: والله ما جاز مطلوبكم هذا المكان, وسمعه أبو بكر فبكي بكاء مكتوما, وهمس لرسول الله صلي الله عليه وسلم قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا; لو هلك أبو بكر لهلك فرد واحد, أما أنت يا رسول الله لو هلكت لذهب الدين وهلكت الأمة, والله ما علي نفسي أبكي, ولكن مخافة أن أري فيك ما أكره فطمأنه رسول الله صلي الله عليه وسلم قائلا: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا. وتسجل الآية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال حوار أبي بكر مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في الغار تسجيلا توثيقيا دقيقا لواقعة حدثت من قبل1431 سنة مما يعتبر وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله يشهد له بالربانية, كما يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة. ومكث رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه في الغاز ثلاث ليال, حتي يئس المطاردون من كفار ومشركي قريش من الوصول إليهما, فأمنا الطريق بعد ذلك إلي يثرب. ولما هدأ الطلب في المغارات المحيطة بمكة, جاء عبدالله بن أبي بكر بالراحلتين اللتين كان أبوه قد أعدهما لتلك الرحلة المباركة, وبالدليل عبدالله بن أريقط, وبالراعي عامر بن فهيرة, كما جاءت أسماء بنت أبي بكر بزاد رحلتهما. وخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه من الغار في ليلة الإثنين غرة ربيع الأول في السنة الأولي للهجرة( الموافق622/9/16 م), فقدم أبو بكر إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم أفضل الراحلتين حتي ركبها وركب هو الأخري, وانطلقا سالكين طريق الساحل وهو أطول من الطريق الجبلي, وذلك إمعانا في التعمية علي المطاردين. وفي الطريق لحق بالمهاجرين أحد فرسان قريش واسمه سراقة بن مالك, فلما قرب منهما غاصت أقدام فرسه في الرمال فاستجار برسول الله صلي الله عليه وسلم فأجاره, ثم دفعه الطمع إلي تناسي ما وقع له, فاندفع محاولا اللحاق بركب المهاجرين ويحدث له أشد مما وقع له, وتكرر ذلك مرارا حتي آمن بأنه لا سبيل له إلي ركب رسول الله صلي الله عليه وسلم فعاد أدراجه صادا للطالبين ورادا للمتعقبين ركب الرسول وصاحبه, والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: اللهم اصحبني في سفري, واخلفني في أهلي. وفي الطريق إلي المدينة نزل رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه ومن معهما لشيء من الراحة والتزود بزاد السفر, فمروا في منطقة قديد علي خيام لأم معبد الخزاعية, فسألوها أن تبيعهم شيئا من اللحم أو اللبن أو التمر, فشكت أن المنطقة تمر في شدة من الجدب والعوز قائلة: والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القري. ثم أبصر رسول الله صلي الله عليه وسلم شاة في جانب الخيمة, فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم, قال: أفهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي, نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها.. فدعي رسول الله صلي الله عليه وسلم بالشاة فمسح بيده الشريفة ضرعها, وسمي الله سبحانه وتعالي ودعا لها فدرت اللبن واجترت, وعلي الفور دعا صلي الله عليه وسلم بإناء كبير فحلب فيه واللبن ينزل غزيرا حتي امتلأ الإناء, فقدمه إلي أم معبد فشربت حتي رويت, وسقي أصحابه حتي رووا, وكان صلي الله عليه وسلم آخر من شرب, ثم حلب صلي الله عليه وسلم في الإناء ثانية حتي امتلأ, وتركه لأم معبد وأهل بيتها. فلما عاد أبو معبد يسوق غنماته العجاف ورأي إناء اللبن عجب لذلك, وسأل زوجته: من أين لك هذا اللبن؟ قالت: مر بنا رجل مبارك, قال صفيه لي, فوصفته, قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش. وصل خبر خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة قاصدا يثرب إلي مسلمي هذه المدينة فكانوا يمشون كل غداة إلي الحرة, ينتظرون وصوله حتي يردهم حر الظهيرة, فعادوا يوما بعد أن أطالوا انتظارهم ليسمعوا بوصول رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه إلي قباء في صباح الإثنين الثامن من ربيع الأول في السنة الأولي للهجرة( الموافق622/9/23 م) فاستقبلوهما بالترحاب والبهجة والفرح, وقضي رسول الله صلي الله عليه وسلم في قباء بضع عشرة ليلة, وأسس فيها مسجد قباء وهو أول مسجد أسس علي التقوي. ثم تحول رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي المدينة حيث تزاحم أهلها علي زمام ناقته كل يريد أن يظفر بنزول رسول الله وصحبه عنده فيقول الرسول: دعوها فإنها مأمورة حتي بركت في مكان فسيح مخصص لتجفيف التمر يملكه غلامان يتيمان في المدينة, فقام الأنصار بشراء الأرض التي بني عليها المسجد النبوي الشريف, وقام رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج, وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, وبعقد المعاهدات مع اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة, وقام بوضع دستور المدينة, أول دستور عادل تعرفه البشرية, الذي علي أساسه قامت دولة الإسلام. من هنا يتضح وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال, الذي يشهد لكتاب الله بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, ويشهد للنبي الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.