الحديث عن الفنانة المبدعة جاذبية سري يحتاج الي زمن يساوي مسيرتها الفنية.. أكثر من ستين عاما وهي منصهرة في حياة الناس باحثة عن الطاقة الروحية التي تدب في أركان المجتمع.. تتلمس وهج الوجوه.. وتتوغل في البحث عن المجهول الكامن في بيوت شخوصها التي تهجنت بالطاقة الانسانية.. كاشفة عن جمال الحلم عند الفقراء.. وآمال المستقبل في عيون الاطفال، فظلت بيوتها صروحا انسانية، نوافذها قلوب وعيون ابناء البلد، ذابت في شرايين المجتمع وانصهرت مع تقاليده وعاداته وفنونه الشعبية المتأصلة.. وامتلأت طاقة بحياة الناس واعتبرت البيئة الشعبية والطبيعة ركائز للمكنون الحامل للقيم الوطنية والشعبية مؤكده علي الملامح والهوية، وجاذبية سري تحتل مكانة فريدة ومؤثرة في حركة الفن المصري والعربي المعاصر، ونبتت جذور إبداعها الفني منذ أن حصلت علي بكالوريوس في الفنون الجميلة عام 1948 وظلت تشكل في مسيرتها بإدراك كامل بأن الفن هو طريقها الوحيد للتعبير عن روح الوطن، فوهبت حياتها لطلابها وفنها وتعد من أهم ركائز التحديث في الفن والتجريب المفاجئ الذي يدهشنا في كل معرض لاعمالها.. متمسكة بمفرداتها وعالمها وملامح وروح شخوصها المكنونين في داخلها باحثة بعمق عن الصورة الذهنية التي تشكل جمال الحلم الانساني، وفي معرضها الأخير خلال الشهر الماضي بالزمالك فاجأتنا بإرادة المستحيل والتي تمثلت في الفضاء الأبيض الممتد وبلاغة الأداء اللوني الصريح الذي يسمو بقوة ونصاعة الألوان الصريحة يعلوها اللون الأحمر المتدفق، وشخوصها الممتدة إلي أعلي في استطالة ممتدة للتماس مع الكون، تعبيرا عن ذات الضمير الوطني الحي. وتقول الناقدة هبة الهواري نري هنا رجلاً عملاقاً مفتول العضلات يرتدي ثياب العمال أو الصيادين، ملامحه تشبه ملامح الرئيس جمال عبدالناصر.. مستبشر الوجه يتطلع إلي الأمام في تفاؤل وتصميم حافي القدمين وهما كبيرتا الحجم راسختان علي الأرض- وكأن جاذبية سري قد غرستهما في تربة مصر العفية البهية بقوة الميلاد الجديد وعندهما نلقي المراكب الصغيرة فجمعت له الفنانة- باستحقاق كل قيم الخصب والنماء والبهجة وخير البحر والنهر الوفير، يمتد ويقبع عند قدميه في ولاء، وقد ارتكنت في أمان الي ظل وجوده الراسخ الرباص في حضور العزة والكرامة والتحقيق الفريد، تصل جاذبية بقامة الرجل الي إرتفاع البيوت الموجودة في الخلفية وتباهي به الدنيا كلها. ويأتي الاداء العفوي المندفع من داخلها من خلال لمسات أسرع من الشهب. لم يتأتي ذلك إلا من فنانة إمتلكت أركان الإبداع الفني الأصيل وامتداد لحالة التوهج والتألق، والتأمل في بعض الاعمال الفنية التي يسيطر عليها اللون الاحمر علي مساحة اقرب الي المربع في فراغ أبيض ممتد. نشاهد تلاحما بشريا شفافا ونابضا من العمق مع التأكيد بلمسات الشهب علي بعض الوجوه بالأسود. ونبض مرتجف من الأبيض.. حالة من الحوار اللوني ذات مذاق بصري تعبيري معتمدا علي العلاقة التبادلية بين البناء والتعبيري والحسي الجمالي، وكتب عنها الراحل الفنان أحمد فؤاد سليم.. نجد جاذبية وقد انخرطت في عالم جسدي ذي قدرة تخيل تنبؤية جمعت الأشياء التي تمثل ذلك العالم في رسومها وصهرت الدلالات وعرضت حواجز الرمز للمحو، وحتي تصل الي تلك التخيلات التي تكتنف المشهد الإنساني.. والأعمال الجديدة للفنانة صادمة بليغة تحمل قدرات إرادية في التفكير في الفن وتكشف عن اصالتها وقدرتها علي الإستمرار المتتابع وبناء الذات الفنية، جاذبية فنانة تعد من أهم فناني مصر والعالم العربي وأعمالها منتشرة في كثير من المتاحف العالمية والعربية ومصر!