ظل الرسول ثلاثة عشر عاما بمكة يدعو الناس إلي عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام فلم يستجب لدعوته إلا نفر قليل بالرغم من تدرجه في الدعوة ابتداء من عشيرته الأقربين إلي أن نزل قوله تعالي أمراً بالجهر بالدعوة »فاصْدَع بمَا تُؤْمَرُ وَأعْرضْ عَن المُشرِْكِينَ« للرسول ولمن آمن معه فلجأ إلي الطائف عله يجد من أهلها ناصرا ومعينا علي تبليغ الدعوة ولكنه أوذي أشد الإيذاء من أهلها وصبيانهم وسفهائهم فعاد إلي مكة حينا وعزم علي الرحيل إلي المدينة لأن أهلها كانوا أكثر استعداداً لتقبل دعوة الله الخالق من أهل مكة ذات البيئة التجارية التي يغلب عليها الانصراف إلي الكسب والربح وكنز المال. واختار الرسول والمدينة دار هجرة لأن الجو فيها كان قد تهيأ لاستقبال الدعوة بالهدي والنور وقد كان لبيعتي العقبة الأولي والثانية قد أوجدت للإسلام في المدينة ركنا وللرسول اتباعا وللمسلمين أنصاراً وتردد في بيوت الأنصار صوت القرآن وكلمة الإيمان فإذا هاجر إليهم الرسول ووجد لديهم المعونة والنصرة واختار صلوات الله وسلامه عليه المدينة دار هجرة لأنها تتوسط الطريق بين مكة والشام ولأهل مكة المشركين ارتباط وثيق بالشام فأليها رحلتهم كل عام وفيها تدور تجارتهم ونشاطهم الاقتصادي ويصدرون إليها ويستوردون منها وهؤلاء هم الذين إذوا رسول الله والذين آمنوا معه وعذبوهم واضطهدوهم وأكلوا حقوقهم وأخرجوهم من ديارهم فالمدينة إذن موقع استراتيجي مهم جداً يستطيع المسلمون فيه أن يقطعوا الطريق علي المشركين كما اختار الرسول المدينة لأن اليهود كانوا يجتمعون فيها وحولها ويثيرون بين أهلها الجدل الديني والحوار العقائدي وكانوا يرددون بين أهل المدينة انه سيظهر نبي جديد في الجزيرة وأنهم سوف يؤمنون به ويتبعونه فرأي أهل المدينة أن يسبقوهم إلي الإيمان بهذا النبي الكريم حتي يفوزوا ويفلحوا ولذلك سارع أهل المدينة باستقبال الرسول والمسلمين بالترحاب ودخلوا في دين الله أفواجا وهكذا قد تهيأت الأجواء في المدينة كي تترسم الخطي نحو إقامة الدولة الإسلامية فقد تدرب المسلمون وتهيأت نفوسهم كي يكونوا نواة هذه الدولة الوليدة التي تقوم علي أساس التوحيد وعبادة الله الخالق الرازق ويسود العدل والمساواة بين جميع ساكنيها فقام رسول الله ببناء المساجد وشارك المسلمين في عملية البناء فكان يحمل الطوب اللبن وكان يردد ويرجع الأناشيد التي ينشدونها حتي تم البناء وأصبح المسجد فيما بعد هو مقر الحكومة الإسلامية التي تحكم هذه الدولة ثم اتجه صلوات الله وسلامه عليه إلي تحقيق مبدأ جديد وهو »المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار« وهذا ينظم الملكية العامة والخاصة بين شعب المدينة كما أنه يؤلف بين قلوب المسلمين وبخاصة ان المهاجرين كانوا قد تركوا أموالهم ومتاعهم بمكة وهاجروا مع رسول الله إلي المدينة فأصبح لهم مال واسر بنين وبنات في هذا الوطن الجديد.