[email protected] التقيت بالدكتور عبد الرحمن بدوي مرتين: الأولي حيث صعدت له في حجرته الصغيرة في فندق "ليتسيا" في باريس. كنت في وفد رسمي ونزلنا بالصدفه في الفندق نفسه الذي يقيم فيه بدوي منذ عدة سنوات. ولم أرد أن أفوت الفرصة دون أن أراه. كنت أعرف أنه يقيم في آخر غرفة أعلي الفندق. فصعدت إليه دون موعد مسبق. طرقت الباب ففتح لي. عرفته بنفسي ورجوته أن أجلس معه قليلاً. لم يكن كثير الترحيب بالزيارة المفاجئة. لكنه سمح لي أن أجلس معه ما يقرب من ربع ساعة. كان يرتدي روباً فوق بيجامة. اندهشت من ضيق الغرفة. كانت بها نافذة واحدة ليست كبيرة. جلست علي كرسي صغير ما بين السرير وبين منضدة أظنه يكتب عليها. لاحظت أنه ليس بالحجرة كتب كثيرة. لم يدعني لشرب أي شئ ولو مجاملة. وهو لم يعرف المجاملة من قبل. لا أذكر الأن تفاصيل الحديث الذي جري معه. كان ذلك في سنوات التسعينيات من القرن الماضي. عليّ التفتيش في أوراق مهولة أو سؤال أحد من الزملاء الذين كنا معاً لمعرفة التاريخ بالضبط. كنت أود أن تكون لدي عادة محمد حسنين هيكل في تسجيل الوقائع أثناء أو عقب حدوثها حرماناً للنسيان من الانتصار علي الذاكرة. فكرت أكثر من مرة أن أتبع هذه العادة الحميدة. كسلي منعني دائماً، عليه اللعنة. المرة الثانية التي رأيت فيها عبد الرحمن بدوي كانت بالمصادفة أيضا بعد المرة الأولي بسنوات، ولم أتحدث فيها معه. كان مسجياً فوق سرير في غرفة في مستشفي معهد ناصر علي نيل شبرا. كنت في زيارة للسيدة ميرفت حرم الدكتور فوزي فهمي الرئيس الأسبق لأكاديمية الفنون. وكانت تجري عملية جراحية في المستشفي. فوجئت بالدكتور فوزي يخبرني أن الدكتور عبد الرحمن بدوي يرقد في غرفة مجاورة. كنت أعلم أن بدوي عاد أخيراً من باريس معانياً مرض الموت. ولم أكن أعلم أنه سيخرج ميتاً من معهد ناصر. هذا الاسم "ناصر" الذي كان أحد الأسماء الأكثر مقتاً له.. لم أفوت هذه الفرصة أيضاً وذهبت مع فوزي إلي غرفة بدوي. كان يجلس معه أخوه الذي رحب بنا جلست أيضا زهاء ربع الساعة ولا أذكر كذلك ما جري من حديث، أعتقد أنه دار جله حول كتب الدكتور عبد الرحمن بدوي وربما كتب كتبها ولم تنشر. لكني التقيت مع الدكتور بدوي كثيراً عبر مقالاته وكتبه. تعرفت عليه أولا وأنا أتصفح الأعداد القليلة لمجلة" الرسالة" التي أصدرها أحمد حسن الزيات في النصف الأول من القرن العشرين. كانت الشاعرة الكويتيه الدكتورة سعاد الصباح قد قامت بعمل ثقافي جليل مجيد، لم تقم به مؤسسة حكومية مصرية، وهو إعادة طبع الأعداد الكاملة من هذه المجلة العظيمة في عدة مجلدات في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. قمت بشراء نسخة من هذه المجلدات لصالح صندوق التنمية الثقافية عندما كنت مديراً له. فكيف تصدر هذه الدرة ولا توجد في الصندوق؟ لا أعلم متي قرأت كتاب بدوي عن تاريخ الإلحاد في الإسلام؟ وكانت هذه أول ما قرأت له. جذبني أسلوبه في الكتابة، وغزارة معلوماته، وعمق بحثه، وجرأته الفكرية. ثم أخذت أبحث عن كتبه الأخري لأنهل منها معرفة واسعة بمتعة عقلية وفيرة، فقرأت ما تيسر لي دون أن أكمل المائة والعشرين كتاباً تقريباً التي تركها لنا العلامة عبد الرحمن بدوي. لذلك كنت جزعاً عندما علمت أن جامعة عين شمس رفضت ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية علي ما أذكر، ربما جائزة مبارك لم تكن قد بدأت بعد. وذلك في عهد رئيس الجامعة الأسبق المرحوم الدكتور عبد العزيز سليمان، فكتبت مقالاً بعثت به إلي جريدة »الأهرام«، انتهي فيه إلي أن بدوي ليس في حاجة إلي الجائزة. وإنما الجامعة هي التي في حاجة الي أن تحمل ترشيحه لتتشرف به، أو كلاما بهذا المعني. وليت لي أن أكون قد أحتفظت بنسخة من هذه المقالة التي لم تنشر. ذلك أنني فوجئت بالليل بمكالمة هاتفية يخبرني فيها من حدثني أن أحدهم علم بأمر المقالة من أحد الزملاء في الجريدة قبل نشرها فطلب سحبها لعدم إغضاب رئيس الجامعة، وقد أجيب إلي طلبه!!. المهم أن كل ما سبق هو مقدمة للحديث عن آخر كتاب صدر للدكتور عبد الرحمن بدوي وهو سيرته الذاتية.طالعت سيرته متأخراً، إذ صدرت في جزأين من عشرة أعوام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، أي قبل وفاته، ولا أدري لماذا لم يصدرها من دور مصرية أولا كي يتيسر للقارئ المصري العثور عليها. والأمر المدهش كذلك أن هذه السيرة نشرت بعد خمسة عشر عاما من كتابتها. هي بالطبع مرآة له. هكذا يجب أن تكون السيرة الذاتية. أن يري الكاتب حياته فيها وأن نراها. لكني أعني أيضا أسلوبه في كتابتها ، فأسلوبه مرآة لشخصيته وليس فقط لأحداث حياته ووقائعها. أسلوب عبد الرحمن بدوي صريح جرئ صادم قاس دقيق التفاصيل حتي إثارة الملل أحيانا، ومنبسط كذلك، أي ليس فيه أي تعقيد في تكوين العبارة ولا في استخدام الألفاظ رغم تفلسفه أحياناً في التعبير، ومع شرحه لآراء فلسفية. وهذا أسلوب نادر لا يتوقعه المرء من مفكر يغوص في بحر الفلسفة وتاريخ الأفكار. هذا يدل علي تمكن بدوي الكبير من موضوعاته ومن لغته العربية في آن واحد. وهو بذلك نموذج لكل من يود أن يكون كبيراً بحق في الفكر أو في الكتابة.. أول جملة في سيرته دليل بين علي أسلوبه هذا. كتب: »بالصدفة أتيت إلي هذا العالم، وبالصدفة سأغادر هذا العالم«! فيظن المرء أننا هكذا جميعاً ولدنا.. لكن الصدفة عند بدوي تعني صدفة حقة. تفسيرها حادث يتعرض فيه والده إلي محاولة لقتله بالرصاص تفشل بسبب صدفة صغيرة الحركة واهبة الحياة، أن تطير ورقة من أمام أبيه فينحني لالتقاطها في اللحظة نفسها التي تنطلق الرصاصات تجاه رأسه، فلا تصيب إلا عمامته. إذن هي »صدفة موضوعية« بتعبير المذهب السريالي، لم يطلق عليه فلسفة علي أية حال. أي صدفة كان يجب أن تحدث لوالد عبد الرحمن بدوي بعد تلك الحادثة بأربعين شهراً. هكذا تصور. إذ كان من الممكن أن يتعرض والده لصدفة مغايرة فيموت، وبخاصة أن الأربعين شهرا زمن ليس بالقصير لاحتمالات عدة لوقوع صدف.لكن هكذا أراد بدوي أن يفلسف ميلاده لنا ويكمل تفلسفه هنا حتي يبدو قريباً من العبثية إذ يقول: »ولو فتشت تاريخ حياة أي إنسان لوجدت أن نوعاً من الصدفة هو الذي تسبب في ميلاده: صدفة في الزواج، صدفة في الالتقاء بين الحيوان المنوي في الرجل والبويضة في الأنثي، الخ الخ. وواهم من يظن أن ثم ترتيبا، أو عناية أو غاية. إنما هي أسباب عارضة يدفع بعضها بعضاً فتؤدي الي إيجاد من يوجد وإعدام من يعدم«. وبدوي فضلاً عما يؤدي إليه تفلسفه هنا من الشعور بعدمية الحياة التي لا قانون فيها ولا رابط إلا مجرد الصدف، هو أيضا يناقض نفسه في مواقف أخري حينما يحلل الأمور بمنطق عقلي قائم علي السبب والنتيجة المؤدي إليها، والتي لا يؤدي إليها سبب مغاير. علي كل حال يبدو هذا الكلام استطراداً يخرجني عن موضوعي هنا وهو سيرة عبد الرحمن بدوي الذاتية. لكني أود قبل أن اترك هذا الاستطراد أن أسجل أن بدوي لم يحظ بعرض واف لأفكاره ولكتبه، كما لم يحظ من ثم بمناقشة مستحقة موضوعية ومعتبرة لكليهما. بخاصة في ربع أو ثلث القرن الأخير وهذا ذ الإهمالذ نمارسه عادة مع من لا يستحقونه... غير حياة بدوي بتفاصيل أحداثها، هناك استعراض مفيد لكثير من الأحداث المصرية العامة التي شاهدها مشفوعة بآرائه فيها. ويمكن لمن يحاول أن يجمع آراء بدوي في هذه الأحداث وينسق بينها فسيكون صورة لفكره ومدي تغيره مع الزمن. كما يمكن فعل الأمر نفسه مع وصف بدوي للحياة التي عاصرها في مصر أن يعطينا صورة عن مصر خلال سنوات حياة بدوي فيها من خلال عينيه. من القرية (شرباص) مركز فارسكور محافظة الدقهلية حتي العاصمة القاهرة. هو حاضر في سرده سواء لحياته الخاصة أو الأحداث العامة بذاكرته القوية وذهنه الناقد المقارن. حتي عندما يتحدث عن قريته شرباص لا يفوت الفرصة لينبه القارئ بعدم الثقة فيما ورد في الفقرة الخاصة بقريته في كتاب »الخطط التوفيقية« من تصنيف علي باشا مبارك ومن قسوته المعهودة وتطرفه يصف بدوي حديث علي مبارك عن قريته ب »جهل تام«.