فندقان فقط في واحة سيوة أفضل من الفندق الذي نزلنا فيه، لكنهما في منطقة تسمي جعفر تبعد عن وسط مدينة سيوة بحوالي 30 كيلو مترا. هي منطقة طبيعية خلابة عبارة عن سهل صحراوي ممتد وراءه جبل يسمي جبل جعفر، وأمامه بحيرة كبيرة. لكن الطريق إليهما ضيق مظلم ليلا، يمر وسط برك من المياه، ولا يسمح إلا بمرور سيارة واحدة. وبالتالي ليس مناسبا كطريق لمنطقة سياحية بها فنادق، إلا إذا اعتبرنا مشاكل هذا الطريق من بين عناصر الجذب البيئية الطبيعية!! أحد الفندقين يكاد لا يعمل من قلة السياح، والآخر يطلقون عليه صفة الفنادق صديقة البيئة لأنه ليس به كهرباء، يعيش نزلاؤه ليلا علي المشاعل. وبالتالي ليست به أية أدوات حديثة. هي فكرة تتوافق مع الحفاظ علي البيئة، ويجب تشجيعها. هذا النوع له زبائنه بالطبع، لكن لا يتحمله أمثالي ممن لا يستطيعون النوم دون قراءة. رغم تشجيعي الشديد للسياحة إلا أنني لا أفهم لماذا وكيف أعطوا صاحب هذا الفندق البيئي 76 فدانا ليبني علي ثلاثة أفدنة منها تقريبا فندقه ويترك الباقي صحراء؟؟! وقد وضع بوابة علي مدخل المنطقة الصحراوية تبعد أكثر من كيلومتر عن الفندق!! لماذا لم يحدث استثمار أفضل لهذه المساحة الكبيرة والمتميزة من الأرض، وتشجيع آخرين علي المشاركة؟ وقد فوجئت بأن هناك من منح المالك نفسه جزءا من قرية أو قلعة سيوة القديمة الأثرية " شالي " في قلب المدينة الحالية ليقيم فيها فندقا آخر!! كما عرفت أن هناك من اشتري أبواب وشبابيك بيوت القرية القديمة ونزعها من أماكنها. حدث هذا علي الرغم من أن " شالي " سيوة مسجلة كمنطقة أثرية بالقرار رقم 210 لسنة 2007! بل علمت أن السيد مدير آثار سيوة يعرف بعمليات البيع والشراء في المنطقة الأثرية، وأنه كتب أكثر من مرة للسيد رئيس قطاع الآثار الإسلامية بالمجلس الأعلي للآثار يخبره بهذه العمليات ولم يرد عليه. وعلمت أنه يشكو من أنه ليس لديه خفراء ليحرسوا الآثار، وأنه طلب عدة مرات تعيين خفراء! كيف يسمحون بتغيير معالم قرية شالي الأثرية في قلب سيوة باستخدامها فندقا؟ كيف يقيمون فندقا في قلب أثر؟ هل ضاقت سيوة ليحولوا آثارها إلي فنادق؟؟ وهل التعاقد المفترض مع صاحب هذا الفندق تم مع المجلس الأعلي للآثار، صاحب الولاية علي المنطقة؟ أم مع مجلس مدينة سيوة؟؟ وما بنود هذا التعاقد؟ وما المقابل المادي الذي يدفعه صاحب الفندق؟ بمناسبة آثار سيوة انزعجت عندما زرت معبد الإله آمون " الوحي " ووجدت قاعدة حديدية ضخمة مركبة علي قاعدة خرسانية وسط القاعة الوحيدة الباقية في المعبد. علمت أنهم قاموا بهذا العمل لتدعيم جدران هذه القاعة التي كانت مهددة بالانهيار. فهل يدعم الخبراء الآثار بالحديد والخرسانة؟ إنني لم أر مثل هذا من قبل في كل عمليات ترميم الآثار التي شاهدتها، فكيف حدث ذلك؟ إنني علي ثقة من أن الصديق والزميل الدكتور زاهي حواس، الأمين العام علي آثار مصر، سوف يسارع بالتحقيق فورا في هذه الوقائع التي ذكرتها، وسوف يأمر بإخلاء الفندق الذي احتل " شالي " الأثرية، فلا يمكن أن نشجع السياحة علي حساب الآثار، لأن الآثار هي الأصل، ولولاها ما كانت هناك سياحة في مصر ولا يحزنون. وسوف يأمر بإزالة الخرسانة من معبد الوحي مع معاقبة من فعلوها. ويأمر فورا بتعيين خفراء مناسبين عددا ونوعا لحماية آثار مصر في سيوة. وأن يحيل الي النيابة العامة وقائع بيع نوافذ وأبواب شالي الأثرية للتحقيق فيها. وأن يولي آثار سيوة ما تستحقه من الاهتمام والرعاية. تحتاج سيوة الي فنادق كثيرة مناسبة، بشرط أن تحترم هذه الفنادق طبيعة سيوة المتميزة. لذا سعدت عندما مررت مصادفة علي فندق جديد تحت الإنشاء داخل المدينة، لفتت نظرنا واجهته الجميلة المبنية والمطلية بخامة الكرشيف. دخلنا وفوجئت بأحد زملائي في العمل يهبط من أعلي سلم بجوار الفناء خلف شخص آخر.. لم أصدق عيني، فكيف التقي بفؤاد مدير التخطيط في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري صدفة في سيوة؟؟ هل " زوغ " من العمل؟ أم أخذ إجازة دون أن أعلم؟؟ علمت منه أنه هنا لأن صاحب الفندق خاله فعرفني عليه، وزاد تقديري لفؤاد بعد أن تعرفت علي خاله.. الفندق ليس فقط متميزا ببنائه، لكنه كذلك فريد في نوعه في السياحة المصرية، لأنه مكون من 12 حجرة فقط. يعتمد علي ممارسة العلاج الطبيعي.. هكذا تجد في مصر صدفة أفكارا تبهرك. وراءها خيال فردي، وعلي صاحب الخيال عندنا أن يواجه المتاعب حتي ينجح في تحويل خياله الي واقع. فلماذا تكون مثل هذه المشروعات منطلقة من مجهودات فردية.. لماذا لا تخطط الدولة لمنظومات من مثل هذه المشاريع وتشجع أصحاب الخيال الخصب علي تحقيقها ومساندتها؟؟ أليس في ذلك خير للمصريين؟؟ في اليوم التالي شددنا الرحال بسيارات مجهزة ذات دفع رباعي لنخوض رمال البحر الأعظم. كنت أظنها لعبة كالتي جربتها في السعودية منذ بضع سنوات عندما صعدت بنا السيارة تلا من الرمال وهبطت بانحراف شديد. لكن ظني هذا كان لجهلي المؤسف بجزء مما تمتلكه مصر.. هذا البحر الأعظم من الرمال. علي بعد دقائق من وسط المدينة، يبدأ " ساحل " بحر الرمال. علاقة فريدة بين الطين والرمل في هذه المنطقة. تدهشك أكثر من العلاقة بين الرمل والماء علي شواطئ بحار المياه. مساحة ممتدة لا نهائية من الرمال بلا ضفاف. توقف السائقون بسياراتهم المجهزة للخوض في بحر الرمال ليخففوا من امتلاء إطارات السيارات بالهواء، فالرمال لا تحب الإطارات المنفوخة. بعدها انطلق السائقون بسرعة يمخرون عباب الصحراء وكأنهم يعودون الي منازلهم في طرق محفوظة! كيف يمكن لإنسان أن يحدد اتجاهه في الصحراء ويحفظه نهارا وليلا؟ سألت السنوسي قائد سيارتنا فأجاب: " نهارا بالخبرة، وليلا بالنجوم. كان أبي من رواد بحر الرمال. كنت أخرج معه في سيارته. ثم تركني أقود بمفردي لأول مرة وعمري ستة عشر عاما! وعلي مدي أربعين سنة حفظت كل معالم بحر الرمال من الحدود إلي الحدود مرورا بمنخفض القطارة ". كانت السيارة تنهب الصحراء، وحولنا تترامي تنويعاتها الطبيعية المدهشة: جبال تتفاوت في الطول والارتفاع، هضاب، تلال، تكوينات صخرية بأشكال لا حصر لها. نخرج من رمل اصفر إلي رمل أبيض إلي أرض رمادية أو جيرية صلدة. وفجأة تجد شجيرات نخيل تصارع الموت، أو شجيرات نباتات قصيرة جرداء لا أعرف لها أسماء. وفجأة تتوقف السيارة عن جريانها لاكتشف أنها وقفت علي حافة هاوية تنخفض عشرات الأمتار عن مستوانا. انحدار حاد الزاوية. قلت لسائقي ببراءة: الحمد لله أنك لحقت بالوقوف قبل أن نسقط في هذه الهاوية. كنت ساذجا، فلقد توقف السائق لكي نسقط في الهاوية. وجدت السيارة تنحرف بزاوية قائمة لتهبط. أخذت السيارة تهبط ملتصقة بالرمل وكأنها معلقة بحبل يحميها من السقوط. ولكن من يستطيع أن يمسك بمثل هذا الحبل؟؟ ببطء شديد نزلت السيارة علي منحدر الرمال الحاد. دخت. أغلقت عيني غير واثق من نجاتي من هذه المغامرة المجنونة. حتي وصلنا واديا رمليا لنستكمل الرحلة في بحر الرمال الأعظم. تكررت هذه المغامرة عدة مرات علي منحدرات مختلفة. اعتدنا عليها وكأننا نلعب بسيارة كهربائية صغيرة في مدينة للملاهي. فجأة تصطدم عيناك بما لا يخطر لك علي بال، في قلب الصحراء.. سبحان الله.. إنها.....