كان ذلك قبل رحيل عبد الناصر بقليل وفي مرحلة حاسمة من تاريخ مصر . كانت الظروف صعبة بعد هزيمة 67 وكانت الدولة تخوض حرب الاستنزاف وتبني جيش العبور وتضع كل الإمكانيات لتحقيق هذه المهمة الوطنية التي لا مجال فيها للتهاون أوالتأجيل بعد أن رفضت مصر الهزيمة واستعدت للثأر . ولم يكن توفير الإمكانيات سهلاً في ظل ظروف فقدت فيها مصر دخل قناة السويس وبترول سيناء وإيرادات السياحة ، وتحملت نفقات تهجير الملايين من سكان القناة وعبء حصار اقتصادي فرضته أمريكا قبل سنوات من حرب 67 . في ظل هذه الأوضاع كان مجلس الوزراء يجتمع برئاسة عبد الناصر لإقرار الميزانية الجديدة . وكان هناك خلاف روي لي تفاصيله قبل سنوات طويلة الدكتور عزيز صدقي مهندس الصناعة المصرية الحديثة رحمه الله . وكان محور الخلاف هوهل نستمر في برنامج التصنيع وفق الخطة التي سبق إعدادها كما كان يطالب عزيز صدقي وعدد من الوزراء ، أم نوقف أي مشروعات جديدة حتي نهاية الحرب كما يطالب عدد آخر من الوزراء يدركون حجم المصاعب المالية ويخشون من ارتفاع نسبة التضخم ويدركون حجم العبء المطلوب لبناء جيش العبور وللحفاظ علي وضع اقتصادي مستقر في نفس الوقت ؟ وكان لكل فريق حجته وأسبابه التي شرحها الوزراء في نقاش طويل حسمه عبد الناصر في النهاية بأن هناك مليون شاب علي جبهة القتال سيخوضون حرباً يثأرون فيها لهزيمة لم تكن مصر تستحقها ، ويحققون نصراً لابد منه ، ويحررون أرضاً دنسها العدو، فهل يعودون بعد ذلك ليجدوا في انتظارهم البطالة ، أم ليجدوا العمل والأمل في غد أفضل يبنونه بالعلم والإنتاج ، ويترجمون فيه انتصارهم في الحرب إلي انتصار للحياة وللوطن الذي يعطيهم بقدر ما أعطوه . هكذا حسم الأمر ، وسار برنامج التصنيع في طريقه ، وبنيت قلاع منها مجمع الألمونيوم وغيره من المصانع العملاقة ، وهكذا كانت الرؤية واضحة حتي في ظل أصعب الظروف تعكس الانحياز الحقيقي لثورة يوليووالإدراك الواعي بأن كل المؤامرات التي واجهتها والحروب التي لم تنقطع عليها كان هدفها ضرب المشروع القومي الذي كان هدفه هوالمواطن الذي لابد أن يتمتع بحقوقه المشروعة في وطن مستقل قادر علي تحقيق التنمية والتقدم ، وفي عدالة اجتماعية تطلق طاقات الجميع وتتيح الفرص المتكافئة أمام كل أبناء الوطن ، وتضع مصر في مكانها الطبيعي في قلب أمتها العربية الساعية للحرية والوحدة والتقدم . جاءت ثورة يوليوقبل 58 عاماً لتقضي علي نظام يتباكي عليه البعض اليوم ويحاولون تصويره علي أنه كان جنة للديموقراطية وعنواناً للحرية وواحة يتمتع فيها المصريون بالكرامة الإنسانية !! هذا النظام الذي لم يخرج مصري واحد للدفاع عنه أوحتي لمجرد الأسف عليه حين سقط في 23 يوليو52 لم يكن يملك من مقومات الحياة شيئاً .. لم يكن فيه إلا ملك فاسد يسقط الوزارات ويؤلفها علي مائدة القمار ، وأحزاب أعلنت إفلاسها ، واحتلال يربض علي صدر الوطن ويتحكم في مصيره ، وأوضاع اجتماعية واقتصادية كان فيها مشروع مقاومة الحفاء هوالمشروع القومي ، وكان نصف في المائة من ملاك الأراضي في الريف يستولون علي ثلث الأراضي الزراعية ، وعمال الزراعة »إذا وجدوا عملاً« فأجرهم لا يزيد علي قرشين في اليوم ، ومستأجرو الأرض الزراعية يستدينون ليدفعوا الإيجار الذي يزيد علي ثمن المحاصيل ويدخل في جيوب الإقطاعيين الذين لا يعرفون شيئاً عن هذه الأراضي، والتعليم حكر علي أبناء الأغنياء حتي بعد أن قرر طه حسين مجانية التعليم الأساسي في العام السابق للثورة .. فمن أين لمن كان أجره »قرشين صاغ« في اليوم أن يرسل ابنه إلي المدارس ؟ لم تخترع ثورة يوليوشيئاً ، بل كانت قيمتها أنها استوعبت الأهداف التي ناضلت من اجلها الحركة الوطنية علي مر السنين.. وهكذا توالت خطواتها : إصلاح زراعي أعاد الكرامة الإنسانية للفلاح المصري ، إنهاء للاحتلال البريطاني بعد أكثر من ثمانين عاماً من الاحتلال بناء للصناعة المصرية الحقيقية ، نصيب عادل من ثروة الوطن للعمال والطبقة المتوسطة ، عدل اجتماعي يعوض الفقراء عن سنوات الحرمان ، واستعادة لقناة السويس من الذين سرقوا مصر لسنوات طويلة ، الشعوب العربية كلها تلتف حول القاهرة التي أصبحت رمزاً لكل حركات التحرر والاستقلال في آسيا وإفريقيا. كان مشروع النهضة الذي طرحته ثورة يوليوهوالخطر الذي تخشاه قوي كثيرة في الداخل والخارج . ومن هنا كانت الحرب الشرسة التي واجهها من عدوان 56 رداً علي تأميم قناة السويس، إلي مؤامرة الانفصال لضرب الوحدة بين مصر وسوريا ، إلي ضربة 67، ثم محاصرة نتائج انتصار 73 والمحاولات التي لم تتوقف لتصفية مشروع النهضة ولتشويه ثورة يوليووتزييف التاريخ وضرب الذاكرة الوطنية حتي تنسي تلك الصفحات الرائعة التي تقول إننا حين نمتلك الرؤية ونعرف الطريق ونحدد الهدف .. نستطيع ان نحقق المعجزات وأن نقهر التحديات وأن نعبر المصاعب . وتأتي الذكري الثامنة والخمسون لثورة يوليو، ومصر والعالم كله يمر بظروف دقيقة ويواجه تحديات صعبة ، ولسنا من الذين يحاولون إعادة إنتاج الماضي بل دراسته بموضوعية . ولسنا من الذين يتصورون ان كل ما جري كان صواباً فقد كانت هناك سلبيات بجانب الايجابيات ، ونكسات بجانب الانتصارات ، ولكن المسار كان صحيحاً ، والاختيار الاساسي كان صائباً ، والدرس الأهم الذي لابد من الإمساك به هوان نستعيد القدرة علي امتلاك المشروع القومي الذي يلتف الجميع حوله ويقاتلون من أجله ويعرفون أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم يرتبط بتحقيقه . ومع وضع كل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية في الاعتبار ، فإن الخطوط الأساسية للمشروع الذي طرحته ثورة يوليو ومازال هوالقاعدة التي لابد منها لأي مشروع قومي حقيقي لبناء الدولة الحديثة علي العلم والعمل ، وعلي قاعدة من العدل الاجتماعي الذي اختلت موازينه في السنوات الماضية ، ومن الاستقلال الكامل ، ومن الديموقراطية التي علمتنا التجربة ان غيابها هوالخطر الفادح ، ومن الإيمان بعروبة مصر وبمكانها في إفريقيا ودورها في عالمها الإسلامي . ومن اجل هذا تستمر الحملة علي ثورة يوليولان وجودها في الذاكرة الوطنية يمثل خطراً علي مصالح الكثير من القوي في الداخل والخارج . ومن أجل هذا تظل ثورة 23يوليووقائدها العظيم الراحل جمال عبد الناصر في ضمير الملايين في مصر وفي الوطن العربي تمثل الصفحة الأعظم في تاريخهم الحديث ، وتمثل الأمل في النهوض والتقدم من جديد . ولهذا لا نحتفل بيوليوباعتبارها فقط ذكري من الماضي ، بل باعتبارها ساحة لمعركة مازالت مستمرة ، ومشروعاً لمستقبل لابد من تحقيقه ، و.. كل يوليووأنتم بخير ! آخر كلام لمولانا الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب كل التقدير علي مواقف كثيرة أعلنها وفي مقدمتها موقفه الحاسم الرافض لزيارة القدس الشريف وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي . ولمولانا الإمام الأكبر الحق في أن ينتقد قانون تطوير الأزهر بعد خمسين عاما من صدوره !! ولكن يخطئ شيخ الأزهر حين يقول " إن النظام في هذه الفترة أراد إضعاف دور الأزهر بعد أن اختار الاشتراكية مذهباً للحكم " .. فلا الاشتراكية تعني الإلحاد كما يقول الإمام الأكبر ، ولا تطوير الأزهر كان مؤامرة ضده، بل كان محاولة لكي يكون الأزهر الشريف جزءاً من العصر يحارب معارك الإسلام بالعلم الحديث . عفواً يا مولانا .. لم تكن الاشتراكية التي طبقتها مصر هي الإلحاد بل كانت بحثاً عن العدل الذي أمر به الإسلام ، ولم يكن تطوير الأزهر إضعافاً له بل كان إنقاذاً للأزهر من عزلته عن العصر ، وعن العلم الذي أمر به الدين الحنيف !!