من الطبيعي أن يفقدوا صوابهم.. فقد تصوروا عند رحيله أنهم تخلصوا منه للأبد، و أنهم سيدفنون معه كل ما يمثله من قيم ومبادئ. فإذا بهم بعد أربعين عاما يكتشفون أن الرجل مازال يحتل مكانته في قلب الأمة وأن كل محاولات التشويه و تزوير التاريخ لم تنجح في خداع الناس، وأن أجيالاً جديدة لم تر جمال عبد الناصر ولم تحارب معاركه ترفع الآن صورته في كل عاصمة عربية، لتقول لأعداء الأمة إن المعركة من أجل الوحدة والتقدم والعدل والحرية لم تنته، وأن الأمل باق رغم كل التحديات، والمصاعب، والمؤامرات. لم يأت عبد الناصر من فراغ، بل كانت قيمته الحقيقية أنه إبن الحركة الوطنية في مصر الذي استطاع أن يستوعب أهدافها ويجسد شوق الملايين الي العدل والاستقلال والحرية. لم يكن في حاجة لأن يخترع شيئاً لم يكن في ضمير الأمة و لم تحارب الناس من أجله. كانت قيمته الحقيقية أنه استطاع أن يكون الممثل الحقيقي لآمال الملايين وطموحاتهم والوارث الطبيعي للمهمات الصعبة التي لم تحققها الحركة الوطنية قبل ثورة يوليو بدءاً من طرد جيوش الاحتلال البريطاني وبناء الدولة الحديثة التي تقود أمتها العربية علي طريق الحرية والاستقلال، وحتي إقرار مبدأ العدل الحقيقي الذي حول ملايين الفلاحين من عبيد للأرض إلي مواطنين حقيقيين، وحول ملايين العمال إلي شركاء في بناء وطنهم، وأتاح الفرصة الكاملة لكي يتعلم أبناء الفقراء ولكي يتقدموا في الحياة بقدر جهدهم و كفاءتهم .. و ليس بنفوذ الآباء أو ثروة العائلة !! لم يخترع عبد الناصر شيئاً جديداً، و لكنه استطاع أن يجسد آمال الناس وأن يستوعب ما ناضلت من أجله الحركة الوطنية، وأن يحشد الجهود ويملك الإرادة ليحقق ما كان الكثيرون يعتبرونه من المستحيلات لأنهم لا يدركون ماذا يستطيع الشعب ان يحقق حين تتوحد الكلمة ويتحدد الهدف وتتحرر الإرادة.. رحل الاستعمار البريطاني، واستردت مصر قناة السويس وانتصرت في حرب 56 ، وبنت السد العالي وبدأت نهضتها الصناعية الكبري، وانفتحت علي عالمها العربي وعلي قارتها الإفريقية، وأصبحت القاهرة عاصمة لحركات التحرر في العالم كله، وانتقل الملايين من المصريين من حياة كان أقصي ما تعدهم به الحكومات فيها هو أن تساعدهم علي مقاومة الحفاء.. إلي حياة أحس فيها كل مواطن أنه شريك حقيقي في هذا الوطن، وانفتحت فيه الأبواب لتملك مصر ثروة حقيقية من العلماء والخبراء في كل الميادين كانوا هم عماد الطبقة الوسطي وقادة العمل الوطني في كل المجالات . وعندما وقعت الكارثة في 67 و تصور العدو أنها النهاية كانت الاجابة هي رفض الهزيمة، وكان ما تم بناؤه علي مدي خمسة عشر عاما من الثورة يعطي نتائجه، وكانت الملايين تعلن أنها ستقاتل دفاعاً عن الوطن الذي منحها الكرامة الوطنية ووفر لها التعليم والمسكن والعلاج المجاني وكانت مصر قادرة علي بناء جيش المليون مقاتل الذي خاض حرب الاستنزاف في حياة عبد الناصر ثم انتصر في حرب اكتوبر بعد رحيله. وها نحن بعد أربعين عاماً نجد الرجل مازال في قلب المعركة.. الذين رقصوا في إسرائيل يوم رحيله يعرفون اليوم أن حساباتهم كانت خاطئة وأنه سيظل رمزاً لاسترداد الحق العربي مهما طال الزمن. والذين فرحوا في العالم العربي برحيله يدركون اليوم كيف كانت الخسارة فادحة و كيف أصبحت أحوال العرب في غيابه. والأعداء في الداخل والخارج يدركون أن معركتهم مستمرة لأن الرجل مازال حياً في قلوب الفقراء الذين انحاز لهم، وفي وجدان الملايين الذين مازالوا يحلمون بالعدل والحرية والتقدم، وبكرامة الإنسان في الوطن العربي. ولا يعني ذلك ان الرجل كان بلا أخطاء، ولكن الحكم عليه ينبغي ان يكون بأخذ الظروف كلها في الاعتبار. أخطأ الرجل بلا شك ولكن أخطاءه بأي تقييم موضوعي ليست هي »الأخطاء« التي يحاول أعداء الأمة زرعها في ضمير الناس منذ اربعين سنة ظلوا خلالها يحاولون ترويج ما يزعمونه بأن تأميم قناة السويس كان خطأ!! وبناء السد العالي كان خطأ آخر!! وحرب الاستنزاف كانت خطأ ثالثاً!! و تحدي أمريكا ومعاداة إسرائيل كانت خطأ رابعاً!! والعدل الاجتماعي وإنشاء القطاع العام ومحاولة بناء الدولة الحديثة وتأكيد عروبة مصر.. كلها »أخطاء« لا تغتفر عند هؤلاء، وهي نفسها العوامل التي تجعل من عبد الناصر بعد أربعين عاماً من الرحيل حاضراً عند الملايين في مصر والعالم العربي، ليس من باب الحنين الي الماضي ولا التمسك به، ولكن صراعاً حول الحاضر والمستقبل. وحول كل المعاني النبيلة التي جسدها عبد الناصر والتي ستظل عند أعداء الأمة هي »الأخطاء« التي لم تتوقف حربها الخائبة عليها منذ أربعين سنة، والتي ستظل عند الملايين في مصر وفي العالم العربي هي معالم الطريق الصحيح لتحقيق أهدافهم في العدل والحرية والوحدة والنهضة الحقيقية. في ذكراه الأربعين - وربما من باب التجديد - أضافوا تهمة جديدة إليه هي »تأليه المواطن«.. منذ قيام الثورة وحتي الآن وهم يتهمونه بالاستبداد، والآن يتهمونه بأنه جعل من المواطن »إلها« بإعطائه أكثر من حقوقه !! وليس هناك من رد أبلغ مما قاله كاتبنا الكبير الراحل احمد بهاء الدين قبل ثلاثين عاما في مواجهة حملة افتراءات مماثلة: موتوا بغيظكم !! آخر كلام الكلام كثير في ملف الوحدة الوطنية. و لكن بعد الاعتذار الشجاع من قداسة البابا شنودة، وبعد الموقف العاقل والحاسم من مؤسسة الأزهر، تبقي المهمة العاجلة والأساسية منا جميعاً هي حشد كل الجهود لإخماد النار التي أشعلها التعصب، ومحاصرة الفتنة التي أثارتها الحماقة. هذه هي المهمة العاجلة، وبعدها لابد من فتح الملفات ووضع الأسس لعلاقة صحيحة بين الدولة و المؤسسات الدينية، و إقرار لمبدأ المواطنة، وإزالة لكل بؤر الاحتقان التي يستغلها البعض لإثارة الفتنة في وطن كان وسيظل وطناً لأبنائه جميعاً.. يبنونه معاً بالمحبة و المساواة، ويستشهدون معاً في الدفاع عن أرضه، ويعرفون كلهم أن قنابل الأعداء لا تفرق بين المسلم والقبطي وأن مؤامرات الأعداء لا تتمني شيئاً إلا التفرقة بينهم. رسمياً.. الفقراء عند الحكومة هم من يقل دخلهم عن 160 قرشاً يوميا!! هل مازال هذا المقياس سارياً بعد أن وصل سعر كيلو الطماطم إلي عشرة جنيهات ؟! الزملاء الصحفيون الذين يقومون بتغطية نشاطات النقابات المهنية أصدروا بياناً يعلنون رفضهم العمل بأجر في موقع الكتروني لنقابة المحامين. وبغض النظر عن الصراعات القائمة في نقابة المحامين، فإن علي الجميع احترام ميثاق الشرف الصحفي وأخلاقيات المهنة التي ترفض عمل الصحفي لدي مصادره الخبرية أو الاستفادة من ذلك بأي صورة. الزملاء - ولهم كل التقدير - يثيرون قضية لم يعد ممكناً تجاهلها في علاقة الصحفي بمصادره والابتعاد عن موقع الشبهات فيما يكتبه. وقد حسم مجلس نقابة الصحفيين السابق الأمر حين أصدر قبل ثلاث سنوات لائحة جديدة للقيد في النقابة. أرجو من الجميع أن يعودوا إليها !!