تناولت في المقال السابق بدايات عابرة للفنان البحريني راشد بن خليفة الخليفة ومن خلال العرض الهام الذي أمامه بإحدي قاعات المتحف الوطني بالمنامة والذي شاهده الكثير من الفنانين العرب والأجانب مضافاً الي ذلك بعض مديري المتاحف بالعالم.. وأيضاً نقاد الفن والمعرض كما أشرت من قبل في غاية الأهمية لأنه يكشف عن مراحل الفنان الأخيرة وكيف تطورت ونمت تجربة الفنان من الالتزام بالطبيعة والبيئة وحياة الناس الي ما قبل التجريد وصولاً الي أحدث أعماله التي إتسمت بالتجريد التعبيري المبني علي مرجعية أصيلة وممتدة من البداية حتي آخر الأعمال بفكر ثاقب وذكاء إبداعي ممزوج بثقافة بصرية وتاريخية أكدت علي هذه الخصوصية النابعة من جذور الحياة في الصحراء والمؤطرة بكونيات السماء وفاجأنا الفنان راشد في مرحلته الأخيرة بعدة أبعاد فنية هامة البعد الأول ان سطح العمل الفني تحرك الي قوس الي الأمام جزء من كرة (محدب) في جميع الأعمال الفنية وهذا أثار عدة أسئلة حول المرجعية الفكرية والفنية التي حفزت الفنان علي هذا التحريك والتمرد علي السطح المستوي.. فإذا تأملنا كوكب الأرض الكروي والفضاء المحيط به ننبهر ونندهش لهذا الكوكب المحلق في الفضاء وإذا تأملنا الشكل المحدب فهو قطاع من هذا الكل أو قطاع في عين الانسان أو الطائر أو الحيوان.. إمتداداً لهذه المرجعية الطبيعية والكونية نجد ان العمارة الاسلامية تتجلي فيها القباب والعقود والمقرنصات التي يتعمق فيها الحس الدائري ان كان كروياً إيجابياً أو غائراً منحوتاً أي سلبي الشكل كلها إشارات تدفعنا الي الكشف عن المخزون البصري للفنان وثقافته كلها تؤدي الي حالة الفعل والإبداع بطاقة حسية وذهنية تنساب تلقائياً عندما يتأمل الفنان داخل ذاته وعندما يبحث الفنان وينقب في أركان وفضائيات تجربته الفنية الانسانية الثرية بكم من المشاعر فالإدراك البصري والذهني للفنان في حالة إنصهار وتوحد بين الشكل المسطح وفضائه الممتد في العمق وبين التحول الي سطح محدب كأن العين تنظر من خلال منظور مركب منساب علي السطح في قمة التحدب ويمتد الي نهايات العمل الفنية الرأسية وكأن المشاهد يتحرك بعينيه في رحلة بدايتها من أعلي مكان للتحدب وهو الوسط وهذا التحدب يعطينا الإحساس بالحياة ونبضها عندما تتفتح اللوحات منبثقة من لون جدران القاعة القاتمة.. وأكد هذا الاحساس الإضاءة الموجهة لكل عمل فني والبعد الثاني الذي فاجأنا به الفن عملية الاختزال لتجربته الرائعة رسم وتلوين المناظر الطبيعية وكيف تحولت الي ما يشبه النغمات الموسيقية.. وشعرت بأن عناصره المألوفة والتي أتابعها في أعماله منذ فترة أنها تتحوصل وتتجمع وتتحد وكأنها كائنات تعيد بناء نفسها من جديد تارة تتنافر وتتباين وتارة أخري تتزاوج في مصفوفة شعورية تلمس الروح وهذا البعد الذي يعتمد علي قدرات إبداعية خلاقة وثقافة بصرية يعتبر من اهم هذه المرحلة لأنها قفزة جريئة وجسورة أما البعد الثالث وهو ما يميز الفنان راشد في أدائه المرهف والمعبر بصدق عن روح الاشياء من خلال تراكم رقائق تتسم بشفافية مطلقة للمسات ألوانه الفنية والدافئة تراكم حسي وشعوري نكتشفه عندما نتأمل حركة اللون المتتابعة والمتوالية وكأنها نبض حقيقي يكمن في كل لمسة هذا الحس التعبيري الذي يحمل كما من الطاقة الروحية والذي يستدعي فنيا الضوء في داخل هذه الأعمال المحدبة ما يميز الفنان منذ بدايته في كافة المراحل فالفنان يمتلك قدرات إبداعية وفكرية وخبرة في الأداء وتحكما في السيطرة الكونية لفضائياته المستوية أو المحدبة فالمعرض نموذج أصيل لتجربة صادقة خلاقة بكامل جوانبها وعندما تتحد القدرات الابداعية بالأداء العالي المستوي ينتج عن هذه الضفيرة حس وعمق تعبيري مشحون بطاقة إنسانية هائلة.