يوم أن كان آدم كانت هناك حواء، وبالتأكيد كان ثالثهما العشق، واستمرت البشرية إلى يومنا هذا هاجسها الأكبر ومبلغ همها قصص العشق والعشاق.. وقصة اليوم هي: العاشقة هي ألمظ أو (سكينة) تلك الشابة الصغيرة المليحية خمرية اللون واسعة العينين كثيفة الحاجبين، والعاشق هو عبده الحامولي ذو الصوت الرخيم والمظهر الرجولي.
ألمظ جاءت من الإسكندرية في عهد مصر الخديوية الإسماعيلية، كانت فقيرة المال غنية الجمال، دائمة الابتسام والدعابة والانسجام، اشتغلت ألمظ مع البنائين حيث كان أبوها بأمر من المعنيين، كان أبوها بناء، وكانت ألمظ تحمل على رأسها الإسمنت والجير وخلافه، وكانت تتسلى وتسري عمن حولها بإطلاق أعذب الألحان، كانت تصدح وتعلي الصوت فينسى العمال المشقة وحرارة الشمس، كمن سحرهم وحملهم معه فوق السحاب في عالم الطرب والعشق والأحباب، وكان في الجوار امرأة تدعى ساكنة ولحي (السيدة سكينة) ساكنة، سمعت ألمظ فلم تعد أبدا ساكنة، أعجبها الصوت وكانت صاحبة جوقة غنائية وتخت، وعزمت على ضم ألمظ إليها، فارتحلت ألمظ إلى القاهرة العامرة.. التي بالفن والألحان ساهرة.
وكان على البعد في قرية (الحامول)، شاب أسمر، متمرد متحرر، على غير وفاق مع عائلته، فهجر بلدته وارتحل إلى العاصمة (القاهرة التي هي بالخير عامرة)، وهناك اشتغل بمقهى شعبي، وكان أثناء عمله يغني ويغرد فينشغل الجميع عما في أيديهم ليستمعوا لعبدو، وهنا زاد رواد المقهى وتوافد الناس حتى أصبح ملجأ لكثير من السميعة ورواد الطرب، لذلك تمسك صاحب المقهى بالمطرب الواعد، وقرر أن يربط عليه السواعد ويثبت أقدامه والقواعد، ولكن كيف!؟ لقد زوجه ابنته، ولم يجد عبدو نفسه إلا مكبلا بالفتاة وأبيها، ومرت الأيام واختنق بداخله الغناء والأحلام، فقرر الفرار والبعد.. وكان القرار.
شربت ألمظ سريعا تفاصيل المهنة وذاع صيتها، حتى غارت ساكنة صاحبة الفرقة وحل بينهما الخلاف والفرقة، وسمع الخديوي إسماعيل ألمظ تغني، فسحر وبهر وقرر أن يجعلها مغنية القصر وبطلة ليالي السهر والسمر، فكانت لا تغني إلا والعربة الملكية تصحبها وتوصلها، حتى جعلها تسكن بالقصر وأصبح لها دارا ومستقرا.
أما عبدو فقد أسس فرقته الخاصة وكبر اسم الفنان سريعا وبقوة، لأنه كان ينتقي الكلمة كما الألحان، وكبار شعراء عصره أعطوه كلماتهم بكل فخر وامتنان، والتفت ذات الخديوي المميز إلى تلك الموهبة، وأمر بسفره إلى الآستانة ليتشرب من الفن التركي وألحانه، وعاد عبدو مجددا في قوالب الأغنيه مازجا المصري بالتركي، صانعا مقامات جديدة في عالم الطرب وليدة، وأصبح مغني القصر والمحروسة.
تعارف الحبيبان فالمجال واحد والاتجاه ذاته، والمنافسة قد اشتعلت.. وبشرارة الحب اتقدت، كانت الغيرة بينهما والتفوق شعارهما، كانت حربهما أشبه بحرب جرير والفرزدق، أحدهما يرد على الآخر ويسجل عليه هدفا، وينتظر الجمهور مستمتعا مراقبا فرحا، وكان كثيرا ما يتصادف أن تغني ألمظ في الحرملك، وبجوارها عبده الحامولي يغني لمجلس الرجال (السلاملك) فتغني ألمظ:
ياللي تحب الوصال وتحسبه أمر ساهل ده شيء صعب المنال وبعيد عن كل جاهل وإن كنت ترغب وصالي حصل شوية معارف لأن حرارة دلالي صعبة وأنت عارف
ويجيبها عبدو مغنيا:
روحي وروحك حبايب من قبل ده العالم والله وأهل الموده قرايب والقلب مش سالم والله
واجتمع الحبيبان أخيرا واعترفا أن تلك الألحان المتطايرة بينهما كسهام حرب مستعرة لم تكن سوى أدوات كيوبيد وطريقته في تحويل السادة إلى عبيد، ووقع العاشقان أسيرين، وأصبح حبهما حديث العامة والأعيان.. وتزوجا وسويا عاشا.
وذات يوم قرر عبدو الحامولي أن تجلس ألمظ في عرينه، وأن تأسر الصوت فالحب والغيرة على المحبوبة هما قوام الحياة والبيت، واستسلمت ألمظ لرغبة حبيبها وجلست في منزله زوجة وربة بيت، ضحت ألمظ بفنها وصوتها وسر نجاحها لترضي حبيبها، وهمس البعض بأن قرار (سي عبدو) كان غيرة منها لا عليها، ولكن ألمظ صمت أذنيها فهي لا تريد لهذه السعادة انقضاء أو فناء.
وافتقد الخديوي ألمظ وصوتها ودعابتها وخفة ظلها، فأجابوه إن زوجها منعها! غضب إسماعيل وأمر على الفور بإحضارها، ولم يستطع عبدو منع الأمر فقد كانت رقبته فداء لطلبها، ومن يعاند أفندينا، وعاد القصر يرقص على أنغام (والنبي لا أهشه دا العصفور وانكش له عشه دا العصفور).
واستمرت الحياة بين الزوجين عشقا وهياما وغيرة وتنافسا مع النفور والانسجام، ولم يرزقا بأطفال، وفجأه تموت ألمظ شابة في السادسة والثلاثين، فتبكيها المحروسة ويصبح العاشق وحيدا، حزينا، أين صوت ألمظ المنافس المشاكس، أين دعاباتها ومقالبها، أين حبها المضحي أين ألمظ؟
ويسري موكب جثمان ألمظ من ميدان عابدين، وتخرج جماهيرها ومحبوها لوداعها، والخديوي إسماعيل يخرج إلى شرفته ملقيا على روحها السلام، متذكرًا لجميل وطريف أيامها، ويبكيها عبدو الحامولي في بيته وحيدا ويغني على فراقها، ويعيش من السنوات خمسا بعد رحيلها حزينا وحيدا عاشقا فريدا مرددا:
شربت الصبر من بعد التصافي ومر الحال ما عرفت أصافي يغيب النوم وأفكاري توافي عدمت الوصل يا قلبي عليه زمان الوصل راح عني وودع وصرت اليوم من ولهي مولع وبعد الصبر هو الصبر ينفع عدمت الوصل يا قلبي عليه على عيني بعاد الحلو ساعة ولكن للقضا سمعا وطاعة دا غيرك الروح في الدنيا وداعة عدمت الوصل يا قلبي عليه
وفي دنيا الحب والعشق وبين قصص المحبين لنا كل أسبوع قصة.. ربما تختلف في التفاصيل والمضمون، لكنها دائماً وأبدا عن العشق هنا وهناك، فإلى اللقاء ومع كامل الحب وفائق العشق.