"ارييل شارون" الذي قطع الطريق على خريطة الطريق هو مَن وضع القنبلة داخل الغرفة الفلسطينية. ذهب إلى الغيبوبة، لكن القنبلة انفجرت في الوقت "المناسب". هل انفجرت القضية؟ هناك سيناريو ينفذ بدقة، مع توظيف منهجي لليأس الفلسطيني الذي له تداعياته العملانية والايديولوجية على السواء، من دون أن يبرر هذا ما حدث، ولكن مَن المسئول؟ ومَن أبقى الأزمة مفتوحة هكذا على مدى ستة عقود، فيما الفلسطينيون يعيشون في ظروف لا يمكن أن تعيشها كائنات بشرية أخرى البتة؟ متى تجتاح إسرائيل قطاع غزة؟ اذا كان لأحدنا أن يتابع تسلسل الأحداث، ومع اعتبار أن حلم "ديفيد بن جوريون"، أول رئيس حكومة في إسرائيل، وكان يلقب ب "النبي المسلح"، كان أن يستيقظ ذات يوم ويجد أن غزة زالت من الوجود. هذا باعتبارها قنبلة ديموغرافية قد تنفجر في لحظة ما، وإن كان واضحاً ان الرجل الذي احتل صحراء النقب، عقب إعلان الدولة وصدور قرار مجلس الأمن الدولي بالتقسيم، كان يتطلع إلى ضمّ القطاع إلى الدولة العبرية التي يفترض أن تستكمل شريطها البحري الذي يمنحها فاعلية استراتيجية أوسع. مجرّد قطعة من الأرض لا تتعدّى مساحتها 362 كيلومتراً مربعاً، لكنها حيوية جداً بالنسبة إلى الأمن الإسرائيلي، على أن ينتقل الفلسطينيون إلى شبه جزيرة سيناء، حتى الآن لاتزال تل أبيب تأمل في مقايضة ما على الرغم من ان المسار الديموغرافي للقطاع جعل المسألة أكثر تعقيداً. حين تحدث "بن جوريون" كان عدد السكان لا يتعدّى ال200 ألف. الآن تجاوز العدد السبعة الأضعاف. البؤس ازداد عشرات الأضعاف، ولكن ألم يتحدث "زئيف شيف"، قبل شهرين من رحيله، عن "جدار الكراهية"، على أنه الجدار الحقيقي الذي بات يفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ غزةوسنغافورة بعيداً عن التطوّرات الأخيرة، كان ل "آمنون كابيلوك" أن يسأل عن الذي جعل غزة تصبح هكذا بعدما كان هناك مَن أراد أن يصنع منها سنغافورة بأدائها الاقتصادي المذهل. المحاضر في الجامعة العبرية "آفي سمحون" قال "إن كهوف تورا بورا انتقلت إلى حدودنا". هل حقاً ان الفلسطينيين هم الذين نقلوا تلك الكهوف على ظهورهم؟ إن "شيمون بيريز" الذي انتخب رئيساً لإسرائيل هو الذي تحدث عن إعادة بناء المرفأ والمطار اللذين دمّرهما الإسرائيليون، مع توسيع نطاق المنطقة الصناعية قرب معبر اريتز، مع تشييد مجمعات سياحية، واستثمار البيوت الزجاجية التي تركها المستوطنون في أنواع معينة من الزراعات. كل هذا لم يحدث، فالحكومات الإسرائيلية تعتبر ان قطاع غزة، بأكمله، هو "فبركة" للإرهابيين، ولا مجال للتعامل معه إلا بالدبابات وطائرات الأباتشي التي تتدرّب بالسيارات العابرة، فيما منع العمال من الانتقال إلى داخل الدولة العبرية لكي يتكدّس البؤس فوق البؤس. هذا يثير حتى كاتباً سياسياً فرنسياً - ويهودياً - بارزاً مثل "جان دانييل" الذي سأل ما إذا كان الإسرائيليون يظنون أنهم صنعوا من غزة لاس فيجاس. الطحين والأمل على العكس من ذلك جعلوا منها زنزانة رملية. قال أحد سكان المدينة لمسئول في وكالة غوث اللاجئين (الاونروا): "إنكم تأتون إلينا بأكياس الطحين، ولا مرة فكرتم بأن تأتوا إلينا بالأمل". هذا الكلام ألهب مشاعر معلق في صحيفة محلية. كتب رسالة إلى الرجل يبلغه فيها، في السطر الأخير، ان الأمل أصبح ينطق باللغة العبرية. الكلمة سقطت، من زمان، من اللغة "الفلسطينية". اذا تكلمت الأرقام. أو بالأحرى إذا ذرفت الدموع: حسب إحصاءات عام 2006، فإنّ عدد السكان هو 443814 نسمة بينهم 990 ألف لاجئ، أما الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع الواحد فهي 3988 شخصاً في الكيلومتر الواحد. يقول البعض: "هذا الرقم قد لا تجده في جهنم". الذين تحت خط الفقر تبلغ نسبتهم 79 %(دولاران في اليوم)، فيما معدل التكاثر هو 5.78 أولاد لكل امرأة مع معدل بطالة يتجاوز 60 %. ولكن يفترض أن نأخذ بالاعتبار أن 65 في المائة من السكان هم دون العشرين عاماً. مجتمع شاب وينقسم هكذا: 731228 رجلاً و712586 امرأة. في عام 1948، كان عدد سكان غزة 70 ألفاً، وهي تشكل 2 %من مساحة فلسطين، وكانت منطقة خصبة ومزدهرة، لكن إقامة إسرائيل، وهجرة 200 ألف فلسطيني إلى القطاع قلب الأوضاع فيه رأساً على عقب، قبل أن ينتقل إلى الإدارة المصرية عام 1949 حتى حرب يونيو 1967 واحتلاله من قبل القوات الإسرائيلية. صيغة الدولتين لا ريب ان الإسرائيليين حاولوا أن يلعبوا، ومنذ اتفاق أوسلو (1993)، على صيغة الدولتين، وهم بذلوا جهوداً كبيرة من أجل ذر الشقاق بين الفلسطينيين الذين حطمهم اليأس، لتظهر حالة الشتات حتى فوق الأرض الفلسطينية. المشكلة أكبر بكثير من أن تجرى مقاربتها بالنظرة الفلسطينية نفسها. أزمةعمرها ستون عاماً ولم تزل مفتوحة على مصراعيها. المشكلة الكورية، المشكلة الفيتنامية، مشكلة البلقان، لا بل ان الحرب الباردة وضعت أوزارها. هل من الواقعي، أو المنطقي، أو الأخلاقي انتقاد الفلسطينيين لأنهم يتصرفون هكذا؟ يقول المفكر الفرنسي "باسكال نوفاس" في اعتراض على الطلب من الفلسطينيين أن يكونوا مثاليين: "لا يستطيع أفلاطون، أو ارسطو، أن يكون حارس المقبرة"، ليشير إلى أن الفلسطينيين خبروا كل أنواع الموت، ومن دون أفق، لا بل انه انقضى أكثر من 13 عاماً على اتفاق اوسلو من دون أن يتحقق شيء جوهري، لا بل انّ الطرف الإسرائيلي الموقّع الاتفاق بدا، من خلال سلوكه على الأرض، كأنه ألغى الطرف الفلسطيني كلياً، ليشير إلى أن "ارييل شارون" هو الذي وضع القنبلة داخل الغرفة الفلسطينية منذ أن قرّر تنفيذ خطة الفصل في قطاع غزة، وكان يعد لخطة خاصة بالضفة الغربية وحيث لم يكن باستطاعة الفلسطينيين القبول بهذه الخطة التي سبقها قرار إقامة الجدار الذي يعني شيئاً واحداً، هو إقامة "بانتوستان" فلسطيني على غرار البانتوستانات العنصرية التي اقيمت ابان الحقبة العنصرية في جنوب افريقيا، فيما الكتل الاستيطانية الكبرى ستبقى. بالايجار أم بالوكالة؟ لا بل ان الطريف هو ان "سيلفان شالوم"، وزير الخارجية السابق سأل: "كيف نقبل بالمستوطنات العربية في إسرائيل، وهي أرضنا، ولا يقبلون بالمستوطنات اليهودية في يهودا والسامرة وهي أرضنا معاً؟". إذاً، هل يعني هذا انه عندما تتحدث تل أبيب عن الدولة الفلسطينية، فهذه الدولة ستكون بالايجار أو بالوكالة؟ وعلى كل حال، الإسرائيليون تحدثوا عن الحدود المؤقتة، مع ما لذلك من تداعيات على المفهوم الفلسفي والاستراتيجي للدولة. "آفي سمحون" يدعو إلى اجتياح غزة الآن، وليس غداً. القضاء على حركة "حماس" عسكرياً، بالتالي القضاء على حركة "فتح" سياسياً، فالقطيعة قامت، ووصلت إلى الحدود "الايديولوجية" بين الضفة والقطاع، ولكن أليس لافتاً للنظر أن يسأل معلق إسرائيلي هو "عكيفا الدار": "حرب مع هنية سلام مع عباس؟". لكن مؤشرات كثيرة تؤكد ان حكومة "ايهود اولمرت"، السعيدة بأن يأكل الفلسطينيون بعضهم بعضا، لا تقدم عادة سوى الفتات. يقول فلسطيني من غزة: "إذا وقفت ساعة واحدة على معبر غزة فإما أن تتحوّل إلى جثة وإما أن تتحوّل إلى قنبلة". الأنفاق... أمام لجنة الدفاع في الكنيست، قال الجنرال "يوفال ديسكين"، رئيس الشاباك (جهاز الأمن الداخلي): إنه خلال عام، تمكنت حركة "حماس" من تهريب 300 طن من المتفجرات، وعشرات من قاذفات الصواريخ المضادة للدروع، فضلاً عن صواريخ "غراو"، وصواريخ مضادة للطائرات عبر شبكة من الأنفاق التي قد يبلغ طول الواحد منها الكيلومتر. هذه الأنفاق قديمة وكانت تُستعمل للتهريب. السلطات الأمنية تقوم بتدميرها بين الحين والآخر، ولكن لتظهر أنفاق جديدة "يملكها" أشخاص نافذون، بحيث تصل عوائد الساعة الواحدة لاستخدام النفق الذي يوجد فيه خط هاتفي يصل بين الفتحتين ما بين 30 و50 ألف دولار. السيناريو الغامض وراء الأضواء تجرى اتصالات من أجل الحوار بين حركة "فتح" وحركة "حماس" لأن استمرار الوضع الراهن يعني الانتحار، حتى ان صحيفة "لوتان" السويسرية تسأل: لمصلحة مَن أن تقوم دولة "فتحستان" هنا وراء "حماستان" هناك؟ ولكن هل مسموح قيام المصالحة بين الفلسطينيين والفلسطينيين في ظل ذلك السيناريو الغامض الذي يبدو الهدف منه واضحاً: إقفال القضية بالشمع الأحمر؟ الصحيفة نفسها تسأل: هل كان الرئيس "جورج دبليو بوش" يقصد برؤيته "الدولتين" دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية أم دولة فلسطينية زائد دولة فلسطينية؟