يوافق الأول من يناير 2008 مرور عام كامل على تولي «بان كي مون« الكوري الجنوبي منصب الأمين العام للأمم المتحدة.. وخلال ذلك العام، شهدت الساحة الدولية الكثير من التطورات والأحداث أغلبها مرتبط بقضايا وأزمات أفرزتها مراحل سابقة بعضها طفا على السطح حديثًا، لتمثل في مجملها اختبارًا جديًا للمنظمة الدولية في ظل قيادتها الجديدة بعد أن ظلت تمثل تحديات بدت مستعصية على المواجهة في عهد من سبقوه ممن تولوا هذا المنصب. وكان ينتظر أن تعيين أمين عام جديد قد يجدد الأمل في نجاح المنظمة الدولية بالتعاون مع المجتمع الدولي في خدمة قضايا التنمية ومنع أو الحد من الصراعات وحفظ السلم والأمن الدوليين - وأن تستطيع تحقيق نقلة نوعية في دورها، الذي بات موضع نقد بعد تراجعه تحت سطوة القوى الكبرى.. على الرغم من أن واضعي اللبنات الأولى للمنظمة كانوا يأملون في أن يكون لها دور قائد لمنظومة التفاعلات والعلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وما من شك في أن التوجه نحو تهميش دور الأممالمتحدة قد برز بوضوح مع انفراد الولاياتالمتحدة وظهورها كقطب أوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واتجاهها لمحاولة الانفراد بالقرار الدولي، ولقد ظهر جليًا هذا الاتجاه بعد أحداث 11 سبتمبر، التي تزامنت مع سيطرة المحافظين الجدد على الحكم في واشنطن، وهم بطبعهم لهم مشروعهم الكوني ولا يقبلون بأية قيود يمكن أن تحد من قدرة بلادهم على فرض رؤاها ومواقفها على الساحة الدولية.. لذا كان موقفهم العدائي تجاه الأممالمتحدة، والذي وصل في تطرفه إلى حد القول بعدم جدوى هذه المنظمة. ولم تكن تلك النظرة الدونية للمنظمة سوى عنوان لمرحلة جديدة بدأتها واشنطن بتهميش دورها والعمل على تقويض دعائمها، على الرغم من أنها استغلتها كثيرًا لإضفاء شرعية على أعمالها وتدخلاتها في نزاعات وأزمات شتى في استصدار قرار بشن الحرب ضد أفغانستان بذريعة حقها في الدفاع عن نفسها، ولكن فشلها في استصدار قرار يخول لها شن حرب على العراق، هو ما دفعها هي وحليفتها لندن لشن عمل عسكري منفرد ضد العراق. وكان طبيعيًا أن يتسبب ذلك الموقف الرافض لمنح الشرعية للعدوان الأمريكي على العراق في تعرض المنظمة وأمينها العام السابق «كوفي عنان« لحملة أمريكية ظالمة منها الكشف عن فضيحة «برنامج النفط مقابل الغذاء« والحديث عن تورط نجل الأمين العام فيها، لتدلل على تفشي الفساد الإداري في المنظمة، وإثبات أنها بحاجة إلى الإصلاح، وهو ما كان يهدف بالدرجة الأولى إلى التشكيك في مصداقيتها وإثارة الشبهات حول كبار موظفيها. وبالطبع لم تكن الحملة إلا بسبب محاولة «أنان« - بصفة خاصة خلال فترة ولايته الثانية - إيجاد شخصية للمنظمة كيان دولي هو الأكبر على الساحة الدولية، ومطالبته بمواجهة وإيجاد حلول للعديد من القضايا، علاوة على سعيه لإيجاد علاقات دولية أكثر توازنًا.. على الرغم من قناعته الخاصة بصعوبة تحدي أمريكا أكبر عضو مساهم في ميزانية المنظمة. إذن جاء تعيين الأمين العام الجديد في توقيت بالغ الحساسية بالنظر لجملة التحديات التي تواجهها الأممالمتحدة، سواء بالنسبة لدورها الدولي أو بالنسبة لحاجتها إلى إصلاح هياكلها الإدارية والسياسية من ناحية ثانية، أو بالنسبة لعلاقتها بالولاياتالمتحدة وموقف الأخيرة منها من جهة ثالثة. ولعله ليس بغريب أن يأتي اختيار «كي مون« - وفقًا لخبرة الشهور الأخيرة من ولاية «كوفي أنان« - بتأييد واضح من جانب الولاياتالمتحدة التي سعت لإيجاد توافق بين الدول الكبرى في الأممالمتحدة على شخصه، باعتباره يمتلك خبرة سياسية اكتسبها من عمله وزير خارجية لكوريا الجنوبية، ومشاركته في إدارة محادثات السنوات الأخيرة لحل أزمة الملف النووي لكوريا الشمالية.. ولكنه لا يمتلك خبرات في مناطق اخرى من العالم ومنها الشرق الأوسط. ونظرًا لذلك الدور الأمريكي في تزكية اختيار «كي مون« كان من الطبيعي أن تثور تساؤلات عن حدود استقلاليته والسياسة المتوقع أن ينتهجها ومدى توافقها أو اصطدامها مع سياسات ومواقف واشنطن. وكان مثيرًا أن يأتي الرد على هذه التساؤلات سريعًا، وبصورة عملية تشير إلى أنه من الصعب حدوث صدام بين الأمين العام وأمريكا، وهو حريص على تحقيق مصالحها، وهو ما ظهر بوضوح في تعييناته في مناصب الأمناء المساعدين؛ فقد عين الدبلوماسي الأمريكي «لين باسكو« في منصب الأمين المساعد للشئون السياسية على الرغم مما يثار من شكوك حول قدرته على العمل بحياد وموضوعية والنأي بنفسه عن مواقف وسياسات بلاده، بالإضافة إلى تعيينه «جون هولمز« البريطاني مساعدًا للأمين العام ومنسقًا للشئون الإنسانية والإغاثة الطارئة على الرغم من محدودية خبرته بأعمال الإغاثة. وكلا المثلين «باسكو« و«هولمز« يثيران الشكوك بشأن ما سبق وتعهد به «كي مون« حين تولى منصبه بشأن جعل معياري الكفاءة والنزاهة هما الأساس في تعيين القائمين على شئون المنظمة الدولية وموظفيها وليس معيار الجنسية، وهو ما يؤشر إلى إمكانية تأثره في سياساته ومواقفه حيال الأزمات والقضايا الصعبة بمواقف وسياسات الدول الكبرى التي ينتمي إليها كبار مساعديه وخصوصًا، أنه أغفل تعيين مساعدين له ينتميان إلى المناطق التي بها صراعات وأزمات مستديمة وفي مقدمتها الشرق الأوسط. والمتابع لأداء الأمين العام وسياساته ومواقفه خلال العام المنصرم، يمكنه أن يلمس توافقها الواضح مع سياسات ومواقف واشنطن من منطلق قناعته الخاصة بأن نجاح هذا الكيان يبقى مرهونًا بالتعاون بين الجانبين من خلال شراكة حقيقية تحقق مصالحهما. وإذا استعرضنا الأجندة الدولية ل «بان كي مون« خلال العام 2007 وأبرز الملفات والقضايا التي احتلت أولوية في سلم اهتماماته سنلاحظ أن قضايا منطقة الشرق الأوسط التي تتورط فيها أمريكا بشكل أو بآخر (النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، العراق، دارفور، لبنان، الصومال، الملف النووي الإيراني) جاءت في المقدمة تليها قضايا التنمية، ثم مشاكل الفقر والأمية والصحة والتغيرات المناخية، وأخيرًا حقوق الإنسان. وبإلقاء الضوء على مواقف وسياسات الأمين العام حيال تعقيدات منطقة الشرق الأوسط - سيلاحظ أنها جاءت لحد كبير انعكاسًا وصدى لمواقف الولاياتالمتحدة والغرب، وإن حاول أن يبدو أكثر حركة وأكثر انغماسًا في هذه القضايا مقارنة بسلفه «كوفي أنان«، وإن ظلت هناك حدود للحركة المرهونة - بدرجة كبيرة - بما تسمح به القوى الكبرى وتحديدًا واشنطن. ومع ذلك لم يبد الأمين العام - على مدى عام كامل - نفس الدرجة من الاهتمام لجميع قضايا وأزمات المنطقة- ولكن من الواضح أنه يضع أولويات في أجندته؛ حيث نجد اهتمامًا ملحوظًا من جانبه بأزمة دارفور يليها أزمة العراق ثم النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ثم لبنان، وهو ما سنركز عليه في التناول التالي:- 1- أزمة دارفور: من اللافت أن «كي مون« وضع تفسيرًا للصراع في هذا الإقليم- نشره بمقال في صحيفة «واشنطن بوست« في 16/6/2007- عكس فيه رؤيته الخاصة له، فهو لا يميل إلى اختزاله في صورة صراع سياسي عسكري، ولكن يرجعه لظروف بيئية مرتبطة بتنافس قبائل البدو العربية مع المزارعين الأفارقة على المراعي وموارد المياه؛ نتيجة لتغير الظروف المناخية وانتشار الجفاف بالإقليم، وهو ما يتطلب - من وجهة نظره- علاوة على إقرار تسوية سياسية بين الأطراف المتنازعة، ونشر قوات حفظ السلام - تبني خطة شاملة لتنمية الإقليم تتطلب تضافر المجتمع الدولي لتنفيذها بتوفير الموارد اللازمة لها. وبطبيعة الحال، فإن هذا التفسير للصراع يتناقض مع التوجه الأمريكي - الغربي الذي يعتبر الصراع نوعًا من التطهير العرقي من جانب حكومة السودان ضد المزارعين ذوي الأصول الأفريقية، ومع ذلك، لم يهتم الأمين العام بمعالجة أسباب المشكلة - كما فسرها - ومال لتبني التوجه الأمريكي بإلقاء المسئولية على الحكومة فيما يتعلق بزعزعة الأمن في الإقليم، وقد عمد في تحركاته إلى ممارسة الضغوط عليها لتنفيذ اتفاق «الدعم الثقيل« بمراحله المختلفة والقاضي بنشر 24 ألف جندي في الإقليم. وقد نشب خلاف بين الأممالمتحدةوالخرطوم بشأن كبر حجم القوات التي ترغب في نشرها بالإقليم؛ حيث ترى الأخيرة أن الاتحاد الأفريقي بقواته البالغ عددها 7 آلاف جندي قادر على القيام بالمهمة إذا تلقى التمويل اللازم.. وأيضًا نشب خلاف حول قيادة القوات، إذ ترغب الخرطوم في تولي الاتحاد الأفريقي القيادة، في حين طالبت المنظمة الدولية بتوليها. ولأنه يعتبر أزمة دارفور اختبارًا لقدرة المنظمة على النهوض بدورها ومهامها، فقد سعى «كي مون« في تحركاته بشأنها إلى إتباع تكتيكات معينة من قبيل: - إدانة الموقف السوداني في المحافل والمناسبات المختلفة، فقد دعا قادة الاتحاد الأفريقي في مؤتمر أديس أبابا في 30/1/2007 إلى حل معضلة رفض الخرطوم نشر قوات الأممالمتحدة في الإقليم، كما اجتمع مع الرئيس «عمر البشير« بقمة الرياض العربية 28-29/3/2007، حاول إقناع البشير بالموافقة على نشر القوات الأممية، كما حث متمردي دارفور الذين لم يوقعوا على اتفاق أبوجا للسلام (مايو 2006) على الانضمام إليه، وطالب بموافقة جميع الأطراف على نشر قوات أفريقية أممية مشتركة في الإقليم. - اتهام النظام السوداني بإحلال الفوضى وممارسة الإبادة الجماعية، فتقرير المفوضية العليا لحقوق الإنسان وبعثة المنظمة في السودان الصادر في 18/1/2007 زعم بتورط حرس الحدود السودانيين في شن هجمات على بعض القرى بالإقليم على خلفية إثنية، وذلك منذ بدء شهر يناير .2007 - تعيين «فرانسيس دينج« مستشارًا خاصًا للأمين العام لمنع جرائم الإبادة الجماعية بدارفور، وهو سوداني جنوبي من المؤيدين البارزين لمشروع نظامين بدولة واحدة، الذي قامت عليه اتفاقية نيفاشا بين الحكومة السودانية والجبهة الشعبية لتحرير السودان. - التلويح بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على السودان، وتوسيع حظر بيع الأسلحة له، ومنع طلعات الطيران على دارفور، وكذلك منع عدد كبير من الشركات منها شركات نفطية، من الاتجار أو إجراء تعاملات مالية مع الولاياتالمتحدة وذلك لتسريبها معلومات حول سعي أمريكا وبريطانيا لاستصدار قرار من مجلس الأمن لفرض عقوبات على الخرطوم. - المطالبة بتنفيذ القرار «1593« الخاص بمحاكمة المتورطين في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بدارفور، ومنهم «أحمد هارون« وزير الشئون الأمنية السابق، و«علي كوشيب« أحد قادة ميليشيا الجنجويد. وجاء التطور السريع للأزمة بعد قبول الرئيس عمر البشير في 12/6/2007، خطة نشر القوة المشتركة (23 ألف جندي) لتحل محل قوة الاتحاد الأفريقي (7 آلاف جندي)، وتدعمت هذه الموافقة بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1769 في 31/7/2007 الذي بمقتضاه سيتم نشر هذه القوة في منتصف 2008، وقد أكد الرئيس السوداني التزامه واستعداده تسهيل نشر هذه القوة. بيد أنه مع تطور الأحداث ظهرت مشاكل خاصة بتجهيز القوات بالمعدات العسكرية اللازمة، علاوة على حاجتها لوحدات نقل وإمداد وتموين، هذا بالإضافة إلى الخلاف حول الاستعانة بقوات غير أفريقية ضمن القوة المشتركة.. ولقد سعت المنظمة الدولية في نفس الوقت للبحث عن حل سياسي وتم تكليف «جان إليسون« ممثل الأمين العام بالسودان بالبدء في حوار سياسي بين زعماء المتمردين والحكومة السودانية ينتهي بمفاوضات السلام.. وقد قام «كي مون« بزيارة للسودان في 6/9/2007 - هي الأولى منذ توليه منصبه - لبحث الصورة النهائية لوضع القوات المشتركة ومن أجل الإعداد الجيد لجولة الحوار بين الخرطوم والمتمردين في طرابلس، التي انعقدت في 27/10/2007 لتشجيعهم على الانضمام لاتفاق أبوجا، ولكنها واجهت مصاعب لرفض بعض الفصائل المشاركة فيها. 2- الأزمة العراقية: يلاحظ أنه في بداية تولي «كي مون« مهام منصبه أعلن أن العراق يشكل القضية المركزية بالنسبة للمجتمع الدولي، وأكد اعتزامه بالعمل على إعادة الاستقرار إليه، ودفع جهود إعادة إعماره، ولكنه عاد وتراجع عما التزم به بالنسبة للشق السياسي، وأعلن خلال زيارته الأولى لبغداد في مارس 2007 أن نطاق المساعدة المحتملة اقتصادي اجتماعي أكثر منه سياسي، وهو تراجع بدا مفهومًا؛ ربما لعدم رغبته في توريط المنظمة بأية التزامات في هذا البلد؛ نظرًا لتدهور حالته الأمنية خصوصًا وأن تجربة تفجير مقر المنظمة في بغداد أغسطس 2003 ظلت ماثلة في الأذهان فضلاً عن أن القيام بدور سياسي بهذا البلد مرهون بإرادة واشنطن. ولقد أدرك «كي مون« بنفسه خطورة الوضع الأمني في العراق خلال زيارته المشار إليها - حين سقطت قذيفة هاون قرب مكان تواجده بمؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء العراقي «نوري المالكي«، ومع ذلك لم يلتفت الأمين العام لهذه الفوضى الأمنية التي تسبب فيها الاحتلال وادعى في حديث لصحيفة ألمانية في يوليو 2007 أن الولاياتالمتحدة لعبت دورًا مهمًا في استقرار العراق و«لابد أن نقدر التضحيات التي قدمتها«، متجاهلا الدمار الذي حل بالعراق أرضًا وشعبًا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خشيته من غضب واشنطن وعدم رغبته في تكرار تجربة من سبقوه في منصبه. ولقد اقتصر دور الأمين العام في حل مشكلة اللاجئين العراقيين (4 ملايين عراقي)، على الدعوة لعقد مؤتمر دولي لبحث سبل دعم هؤلاء اللاجئين، وهو ما تم بالفعل يوم 17/4/2004، طالب الأسرة الدولية بفتح أبوابها لهم. أما بالنسبة الى قضية إعادة الإعمار فقد دعا المجتمع الدولي الى دعم الخطة الخمسية التي تتجسد في اتفاق مع العراق لتقديم الدعم الدولي له على المستويات الاقتصادية والسياسية والفنية مقابل تطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية، وقد اقتصرت نتائج العهد الدولي حول العراق في بداية مايو 2007 على تعهدات بشطب 30 مليار دولار من الديون المستحقة عليه. ولعل التطور الأهم بالنسبة الى موقف «كي مون« من العراق ودور الأممالمتحدة فيه، يتمثل في الضغوط التي مارستها واشنطن عليه وعلى المنظمة للقيام بدور أكبر في هذا البلد.. وهو توجه جديد عكس - بدرجة كبيرة - المأزق الذي تواجهه هناك، وقد أدت هذه الضغوط إلى إصدار مجلس الأمن القرار (1770) في أغسطس 2007 الذي مدد مهمة بعثة المنظمة مدة عام وسمح بزيادة عدد موظفيها إلى 95 موظفًا بدلاً من 65، علاوة على توسيع نطاق ولايتها وتحديد مهام واضحة لها بمعالجة الوضع السياسي، إضافة إلى تسهيل الحوار بين العراق ودول الجوار. ولم يكن هذا التوسيع لدور المنظمة يعني سوى رغبة من واشنطن في التحلل من جزء مهم من حمل العراق الثقيل وتوريط الأممالمتحدة لتتحمل مسؤولية الفشل، وخصوصًا أنها غير مؤهلة لحمل أعباء هذه المهمة وما أنيط بها من دور أكبر من حجم بعثتها ومن إمكاناتها المتاحة، كما أن تدهور الوضع الأمني يجعل حركتها ميدانيًا محدودة رغم التطمينات الأمريكية بهذا الشأن. 3 - النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي: على مدى عام كامل، لم يختلف موقف «بان كي مون« عن موقفي الولاياتالمتحدة وإسرائيل اللتين تؤكدان على مبادئ الرباعية الدولية (الاعتراف بإسرائيل، والاعتراف بالاتفاقات السابقة معها، ونبذ العنف) لتسوية القضايا الخلافية بين إسرائيل الفلسطينيين.. ومع ذلك، وصف تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بأنها تمثل تطورًا إيجابيًا، وإن أعرب فيما بعد عن خيبة أمله لعدم توافق التزاماتها مع المبادئ المذكورة. ولقد اكتفى الأمين العام حيال الأحداث التي شهدها قطاع غزة في يونيو 2007 - التي أسفرت عن سيطرة حركة «حماس« على القطاع - بإبداء القلق حيال الأزمة الإنسانية التي يشهدها القطاع، ولكنه في نفس الوقت رفض تخصيص بند مستقل في آلية عمل مجلس حقوق الإنسان - التابع للمنظمة - لأوضاع حقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينيةالمحتلة، التي أقرها المجلس في اجتماعات دورته الخامسة في 21/6/2007، ولعل تلك المواقف المتتابعة والمتناقضة للمنظمة الدولية وأمينها العام تكشف بدرجة كبيرة إلى أي مدى ضعفت مصداقيتها وتلاشى دورها أمام سطوة الولاياتالمتحدة وانفرادها التام بملف عملية السلام في الشرق الأوسط لدرجة دفعت مبعوثها السابق «ألفارو دي سوتو« الى أن يصف - في تقريره الأخير قبل استقالته - الدبلوماسية المتبعة في المنطقة بالفشل لاعتمادها على فرض الحصار والمقاطعة على الحكومة الفلسطينية. والمثير، أن نفس الموقف الغاضب عبر عنه «جون جودارو« مقرر حقوق الإنسان في فلسطين في 29/9/2007 حين اتهم «بان كي مون« والطاقم الذي يعمل معه بالانحياز الى إسرائيل وفق تعليمات من واشنطن.. وعاد «جودارو« في 15/10/2007 ليطالب الأممالمتحدة بالانسحاب من الرباعية الدولية للسلام ما لم يأخذ المجتمع الدولي حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية على محمل الجد، واتهم اللجنة الرباعية بالتأثر بالنفوذ الأمريكي، وانتقد الغرب لدعمه حركة «فتح« ومقاطعة حركة «حماس«. وبطبيعة الحال، كان انفراد الولاياتالمتحدة بالدعوة الى مؤتمر «أنابوليس« للسلام في/11/2007 فرصة مناسبة للكشف عن ضآلة وتراجع دور المنظمة الدولية فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط؛ إذ كان من المفترض أن تتولى هي الدعوة للمؤتمر باعتبارها صاحبة القرارات الخاصة بالصراع العربي - الإسرائيلي والمسئولة عن تنفيذها لأنها وحدها التي تمثل الشرعية الدولية والمؤتمنة على السلم والأمن الدوليين، وهو ما يعني تخلي المنظمة عن دورها في ظل أمينها العام الحالي وتحولها الى منظمة عاجزة عن تحمل مسئولياتها. 4 - الأزمة اللبنانية: شهدت الشهور الأولى من تولي «بان كي مون« مهام منصبه - تفاقم الأزمة اللبنانية، ولقد قامت الأممالمتحدة بدور رئيسي في تأجيج هذه الأزمة من خلال إقرارها المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق «رفيق الحريري« بعد ضغوط أمريكية وبريطانية وفرنسية. ولقد أثار تشكيل المحكمة علامة استفهام كبيرة حول مصداقية المنظمة الدولية، وخاصة أن لغة القرار يمكن أن تكون ملزمة من دون وضعها تحت الفصل السابع، كما يمثل تشكليها تعديًا على ميثاق المنظمة الدولية؛ إذ يتيح هذا الفصل استعمال القوة، ما يعني أنه يستند الى المسائل التي تهدد السلم والأمن الدوليين أي أن المحكمة ستقوم تحت تهديد السلاح بتنفيذ قراراتها، وهو ما يعطي إشارات بوجود مخطط يستهدف أمن لبنان الداخلي وعلاقاته الإقليمية. ولأن الخطوط في لبنان متشابكة، فإن الأممالمتحدة معنية بدرجة كبيرة بمتابعة العديد من القرارات الأخرى الخاصة بهذا البلد من قبيل القرارين «1559« و«1701«، ففي تقريره الرابع بشأن القرار «1701« في آخر يونيو 2007 عبر «كي مون« عن أسفه للفشل في التوصل الى وقف دائم لإطلاق النار ولعدم إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين، للانتهاك الإسرائيلي المستمر للأجواء اللبنانية، ودعا لنشر خبراء في أمن الحدود لدعم الأجهزة الأمنية اللبنانية وقدرتها على وقف تهريب الأسلحة من سوريا. ورغم أنه اتهم من جانب أطراف لبنانية بالتقاعس عن تطبيق القرار رقم (1559) (الخاص بنزع سلاح الميليشيات) وأنه يتواطأ مع المعارضة و«حزب الله« إلا أن تقريره السادس الصادر في أواخر أكتوبر 2007 بشأن القرار طالب سوريا وإيران - حلفاء حزب الله - بدعم الحوار السياسي لتأكيد اعتزام جميع الأطراف نزع سلاح الميليشيات اللبنانية بما فيها «حزب الله« تنفيذًا للقرار، وأفاد في تقريره أن إعادة «حزب الله« بناء قدراته العسكرية يعد أمرًا مثيرًا للقلق وأن إعادة تسلح الأحزاب والتدريب العسكري يمثل انتهاكًا للقرار. ولم تكن المنظمة الدولية وأمينها العام بعيدين عن أزمة الاستحقاق الرئاسي اللبناني.. ففي منتصف سبتمبر 2007 أيد «كي مون« مبادرة رئيس مجلس النواب اللبناني «نبيه بري« لحل هذه الأزمة، التي أبدى فيها استعداد المعارضة للتخلي عن مطالبها بحكومة وحدة وطنية قبل انتخابات الرئاسة، مقابل موافقة الأغلبية النيابية على انتخاب الرئيس بموجب نصاب ثلثي أعضاء المجلس ليتم التوافق بعد ذلك على اسم الرئيس، كما طالب في تقريره سالف الذكر عن القرار (1559) بأن تكون الانتخابات الرئاسية بمثابة صفحة جديدة للبنانيين، وأنه لا ينبغي أن يكون هناك فراغ سياسي على مستوى الرئاسة، مؤكدًا ضرورة تمتع الرئيس بأوسع قبول ممكن. واللافت أن هذه الأزمة احتلت حيزًا مهمًا خلال زيارة الأمين العام للبنان في 17/11/2007؛ حيث أكد في تصريحاته أن اللبنانيين سينتخبون رئيسهم من دون عنف، ودعا الى انعقاد البرلمان لانتخاب رئيس جديد في الموعد المحدد، مؤكدًا أن المجتمع الدولي سيعترف بأي رئيس يتم انتخابه بموجب الدستور والشرعية. وهكذا.. يبدو مما سبق أن المواقف التي اتخذها والاهتمام الذي يبديه بالأزمة اللبنانية بكل تفريعاتها، ليس إلا صدى للاهتمام الغربي بالشأن اللبناني بعد أن أصبح لبنان بالنسبة إليه، ساحة لمواجهات مع أطراف إقليمية في صراع بسط النفوذ والسيطرة على المنطقة. 5 - الأزمة الصومالية: يلاحظ أن «كي مون« لم يبد اهتمامًا واضحًا بالتطورات التي شهدها الصومال في بدايات العام 2007، فقد تعرض لقصف جوي أمريكي يومي 8 و10 يناير بذريعة وجود عناصر إرهابية من تنظيم «القاعدة«، ولم يدن ذلك على الرغم من أنه يعد انتهاكًا للسيادة الصومالية، كما لم يدن احتلال القوات الأثيوبية ومحاربتها قوات المحاكم الإسلامية بالنيابة عن الولاياتالمتحدة. وقد اكتفى بدعوة المسئولين الصوماليين الى الدخول في عملية مصالحة تضم جميع الأطراف الصومالية بمن فيهم الإسلاميون المعتدلون وزعماء القبائل للخروج من هذا الوضع المتأزم، كما بعث مساعده للشئون السياسية «لين باسكو« في زيارة للصومال يوم 8/6/2007؛ ليؤكد تضامنه مع شعب الصومال، ويحث قيادات الحكومة الانتقالية على تمديد المصالحة مع خصومها. وأيضًا قام مندوب المنظمة الدولية الخاص بالصومال «أحمد ولد عبدالله« أثناء لقائه مسئولي الحكومة الصومالية، بالدعوة الى معاودة إطلاق المصالحة الوطنية، وبحث معهم نتائج مؤتمر المصالحة الذي عقد في يوليو وأغسطس بمقديشيو، ودعا إلى تطبيق توصياته. وفي الوقت الذي تتردد فيه الأممالمتحدة في نشر قوات دولية بالصومال بسبب خسائر قوات حفظ السلام عام 1993، وأيضًا في الوقت الذي أذن مجلس الأمن للاتحاد الأفريقي بنشر قوة من 8 آلاف جندي لم يصل منها سوى 1700 جندي بسبب مشاكل التمويل - تبذل بريطانيا محاولات لإحلال الأممالمتحدة محل الاتحاد الأفريقي من خلال مشروع قرار يدعو فيه «كي مون« إلى تقديم خطة لدعم قوة الاتحاد الأفريقي بهدف تمكين المنظمة الدولية من تحقيق تواجد أكبر في هذا البلد. 6 - أزمة الصحراء الغربية: عندما تولى «كي مون« المسئولية أبدى اهتمامه بملف الصحراء الغربية الذي وصفه بأنه واحد من أقدم الملفات على مائدة الأممالمتحدة، وبدأ أولى خطواته في هذا الاتجاه في فبراير 2007 بتعيين الهولندي «بيترفان فالسوم« رئيسًا لبعثة الأممالمتحدة بالإقليم (مينورسو) خلفًا للإيطالي «فرانسيسكو بانتاجلي«. وقد حث أطراف النزاع خلال قمة الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا في مارس 2007 - على بدء حوار في سياق مفهوم الحل السياسي الذي أقره مجلس الأمن، وجعل تحركه مرهونًا بمدى ملاءمة مبادرة المغرب الخاصة بالحكم الذاتي لصيغة الحل السياسي الذي يتبناه، وقد دعا في تقرير لمجلس الأمن في أبريل 2007 المغرب وجبهة «البوليساريو«- الطرفين الرئيسيين للنزاع - الى التفاوض من دون شروط مسبقة للتوصل الى حل عادل ودائم ومقبول يسمح بتقرير مصير الشعب الصحراوي، مطالبًا الدول المجاورة المشاركة في هذا الحوار والمفاوضات حول المسائل التي تخصها، موصيًا بتمديد مهمة القوة الدولية مدة ستة أشهر. وقد قام «فان فالسوم« بجولة في دول النزاع لتحديد أجندة المفاوضات، التي ستكون في إطار قرار مجلس الأمن «1754« الذي يحث على إجراء مفاوضات بين طرفي النزاع، ثم عاد «مون« في تقرير آخر لمجلس الأمن في 24/10/2007 ليعرب عن أسفه لعدم التوصل الى اتفاق على موعد استئناف المفاوضات بعد جولتين من المفاوضات في يونيو وأغسطس 2007، واعتبر وجود بعثة «منيورسو« أساسيًا لاستمرار وقف إطلاق النار، كما أوصى بتمديد مهمتها حتى أبريل .2008 ومن الواضح أن مهمة «كي مون« ستكون صعبة في إقناع الطرفين بقبول حل يرضيهما في ظل تمسك كل منهما بطرحه الخاص بحل الأزمة، ففي الوقت الذي تصر فيه الرباط على خيار الحكم الذاتي الواسع، تصر البوليساريو على خيار الاستفتاء لتقرير مصير الإقليم وإمكانية تقديم ضمانات للمغرب بشأن أمنها واستغلال الموارد الطبيعية للإقليم. 7 - الملف النووي الإيراني: على الرغم من دور «بان كي مون« البارز حين كان وزيرًا لخارجية كوريا الجنوبية فيما يتعلق بنجاح المحادثات السداسية الخاصة بالملف النووي لكوريا الشمالية، إلا أنه لم يحاول استغلال خبرته في هذا الشأن بعد توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة كي يخلق للمنظمة دورًا في إيجاد حل لأزمة الملف النووي الإيراني.. واكتفى أن تقوم المنظمة ومجلس الأمن تحديدًا بدور المصدق على مواقف القوى الكبرى، من خلال تمرير القرارات العقابية التي تضغط على إيران من أجل وقف برنامج تخصيب اليورانيوم وأبرزها القراران: «1737« و«1747«. والملاحظ أن أغلب تصريحاته بشأن هذا الملف، جاءت في غاية التشدد متجاهلا إسرائيل ومواقفها الرافضة لكل القرارات الدولية؛ حيث أكد ضرورة إسراع إيران بتطبيق القرارات الدولية وتسوية المسائل العالقة بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والترويكا الأوروبية للتأكد من الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي. وفي الوقت الذي يبدي فيه تشددًا حيال ضرورة الالتزام الإيراني بالقرارات الدولية نجد الولاياتالمتحدة تتبع سياسة هدفها تهميش دور الأممالمتحدة في هذه القضية من قبيل ممارستها ضغوطًا على حلفائها وأصدقائها لفرض عقوبات اقتصادية كبيرة تؤثر على إيران خارج إطار المنظمة، نتيجة للصعوبات التي تواجهها لإصدار قرار ثالث من مجلس الأمن بفرض مزيد من العقوبات ضدها بسبب المعارضة الروسية والصينية لذلك بحجة أن قرارًا جديدًا يزيد التوتر معها ويغلق الباب نهائيًا أمام المفاوضات. ومن الواضح في ضوء الاستعراض السابق لمواقف وسياسة «بان كي مون« - خلال العام الأول من قيادته للأمم المتحدة - حيال أزمات وقضايا منطقة الشرق الأوسط - التي تعد الأبرز على الساحة الدولية - أن المنظمة لم تشهد تحولاً مهمًا في اتجاه تفعيل دورها، وإذا كان قد أبدى اهتمامًا ببعض القضايا والأزمات (مثل دارفور أو العراق) فإن هذا الاهتمام مرتبط إلى حد كبير بمصالح القوى الكبرى - وتحديدًا الولاياتالمتحدة - من أجل خلق غطاء دولي وإعطاء شرعية لسياستها التدخلية في المنطقة، وأيضًا إشراكها في المسئولية وتحميلها توابع الفشل عند الضرورة. وأخيرًا يبدو أن المنظمة الدولية مازالت تحت قيادة «كي مون« تقوم بدور التابع للولايات المتحدة، ويبدو أنه قد تعلم من دروس وتجارب سابقيه، وهو يعلم جيدًا أن أحد الشروط الأساسية للتجديد له لولاية جديدة هو التصديق على سياسة واشنطن، ومن ثم فإن أية محاولة لتقوية كيان المنظمة وخلق شخصية مستقلة لها لتصبح ذات دور قوي وفاعل على الساحة الدولية سيكون مصيرها الفشل لأنها ستجابه بقوة من جانب واشنطن التي ترفض أن يكون هناك شريك قوي ينازعها في إدارة العالم.