ليس هذا العنوان المثير من عندياتي وانما هو لكتاب أستاذ وعميد لأحد كليات العلوم الإنسانية في الولاياتالمتحدة واسمه جريجوري برنس.وقد اتخذ اسم الكتاب عنوانا لهذا المقالTeachThemToChallengeAuthority وهو صادر عن دار النشرContinuum عام2008. وتتلخص رسالة الكتاب في الدعوة الي تحدي مختلف مصادر المعرفة والعرفان, فيما يسود فيها من آراء وممارسات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية, ومن تقاليد ومسلمات ومعتقدات ثقافية وقيمية, وهي التي تنقلها المنظومة التعليمية من خلال سلطة المعلم والكتاب المقرر وأجواء الإدارة المؤسسية وغيرها من الآليات والمؤثرات في تكوين الطالب, ويعتبر المؤلف ذلك التحدي حقا من حقوق المتعلم, وفريضة حرية الفكر لمواجهة الأفكار الدوجماتية والتقاليد المترسبة في ثقافة المجتمع, وسلطة الحقائق المطلقة, والمفاهيم القابعة في رؤية التعليم والتعلم, وتفرض علينا المتغيرات العالمية والعلمية مما تموج به من ثورات وتحولات المراجعة الجسورة أي التحدي لما هو شائع من تقاليد وممارسات لا تعيش زمانها. ومحور التحدي يدور حول ضرورة التركيز علي تكوين وترسيخ عادات إعمال العقل للوعي بتلك المسلمات من خلال تنمية التفكير النقدي التحليلي والتكاملي وحل المشكلات واطلاق قدرات التخيل ابداعا واختراعا وقيما أخلاقية, وهذه هي الفريضة الملزمة للعيش المشترك في إيجاد أنماط معرفية وحياتية لمجتمع ديمقراطي رشيد, منفتح ومتجدد, ويحسب المؤلف أن هذا التحدي في تشجيعه الطلاب علي التساؤل حول سلطة مصادر المعرفة الحالية, والتقصي لمختلف وجهات النظر في آفاقها, هو الآلية الفاعلة والنافذة للنقلة النوعية من أدوات التلقين والايداع الي اتساع آفاق المعرفة والابداع. ويؤكد المؤلف أن تحدي مختلف صور السلطة لا تعني بالضرورة أن تساؤلات ووجهات نظر الطلاب المغايرة لما هو سائد من مفاهيم وتقاليد هو بالضرورة الرؤية الصحيحة, فقد يقتنعون بما هو قائم, وقد ينكرونه, ويظل المعيار الحاسم في كلا الموقفين تحكمه فريضة إعمال العقل والتفكير العميق فيما ينتهون إليه من أحكام, وبذلك فإن عملية التحدي تفترض كل ما تستدعيه المقومات العلمية والمنطقية في منهج التساؤل والمناقشة وآداب الحوار وحسن التأتي فيما يتحدونه من سلطات معرفية. ثم إن ممارسة التحدي تتطلب من المعلم في عملية التعليم إفساح المجال ورحابة الصدر من أجل تشجيع طلابه علي التساؤل, وعلي الاستماع لهم بجدية واحترام لكل ما يعرضونه من آراء.. وبهذا التوجه يتم استبعاد( ثقافة الصمت) لدي الطلاب, وأجواء( اسمع.. هوس) ومسلمات( افعل كما أقول, وليس كما أفعل), وبذلك يصبح المعلم هو المحرك الأول لانفتاح العقول وحرية التفكير وتلاقح أفكاره مع أفكار طلابه, مما هو مطلوب في تحدي مختلف مصادر السلطة. ويشير المؤلف في هذا الصدد الي التأثير البالغ للمعلم قدوة لطلابه, حيث لا تجسد لهم سلطته العالم العلامة والبحر الحبر الفهامة, بل انه وطلابه شركاء في مجال المعرفة, لكل آراؤه, يحسمها إعمال العقل والتفكير العميق لما في المعرفة من تعقيدات, ومن تفاوتات بين النص وما وراءه, وبين القول والفعل. ويشير المؤلف كذلك الي القدرة الفائقة للطلاب علي مراقبة سلوك معلميهم, وإدراك مدي الاتساق أو التناقض بين القول والفعل, وبين المواعظ وما يتجسد في الواقع كذلك يري أن الاستماع والاحترام لآراء الطلاب هو المدخل التربوي لضمان ترسيخ مبدأ مشاركتهم في اتحادات الطلاب, وفي تمكينهم من المشاركة في مجالس الكليات والجامعات باعتبارهم أعضاء فاعلين في مسيرة حياة مؤسستهم العلمية, كذلك يري أن هذا التوجه سوف يكون تدريبا وضمانا أيضا لمشاركتهم في الانتخابات العامة والمحلية. وفي معالجة هذا التوجه لتنمية إعمال العقل في تحديات مختلف مصادر السلطة, يتعرض المؤلف لقضية حيادية مقاصد التعليم, وعدم تدخل الآراء والتوجهات الشخصية أو الحزبية, ومن ثم فإن علي المؤسسات التعليمية أن تتمثل موقف الحكم الذي لا يتدخل في مسيرة المباريات الرياضية, وأن من واجبها الاقتصار علي تقديم المعلومات التي من المقرر أن يحتاجها طلابهم, وبذلك تتم عملية التعليم والتأثير المؤسسي بمنهج التوازن والحيادية في مقاصد المؤسسة داخليا وخارجيا. ويعارض المؤلف هذا التوجه الذي يري أصحابه أن تدخل المعلم برأيه قد يؤدي الي اشاعة نوع من التحيز والدعاية لتيارات معينة, لذلك يتساءل أليس حيادية المعلم هي في حد ذاتها موقف معين متحيز لقبول تيارات السلطة في مسيرتها الحالية, ومن ثم فإنه يري ضرورة تعريض الطلاب لمختلف الرؤي والمصادر العلمية الأخري. ويري الحياديون أن تصريح المعلم بآرائه فيما يعلم يتعارض مع أجواء الحرية التي ينبغي أن يتمتع بها الطالب, لكن المؤلف يري أن هذه الأجواء قد تستخدم لتوليد النقيضين, فقد تؤدي الحرية الي تكوين أفراد مجددين مبدعين أو كسالي محافظين, ومن ثم فإنه علينا أن نحرص علي تحدي مصادر السلطة وأن نختار من نقيضي الحرية ذلك الجانب الذي يتيح فرص التفكير الناقد والخلاق, في سياق بناء مجتمع صحي سليم رشيد. ويؤكد كذلك أن الصراعات العالمية اليوم تحتدم في جوهرها حول المقاصد والتوجهات التي تتبناها من خلال نظم التعليم, وتتصادم مصادر الصراع بين فريقين: أولهما أولئك الذين يدعون امتلاكهم للحقيقة المطلقة التي تتجسد في سلطات معرفية مطلقة تنحو نحو الاستبداد في الرأي والأحكام, والفريق الثاني يري أن الحقيقة إنما هي نتاج التفكير النقدي والتدبر العقلاني في حركة الواقع ومتغيراته, وكلا الفريقين يستند الي رؤية معينة حول رصيد المصادر المعرفية, فالفريق الأول يري أنه ثابت راسخ مطلق لا يصح تحديه إلا بالنذر اليسير, هذا بينما يري الفريق الآخر أن الرصيد الثقافي المعرفي السائد ليس مطلقا بل هو احتمالي زماني قابل للتحدي والتحول لضرورات تفرضها المتغيرات في أحوال الواقع ومقتضياته الحياتية. والي جانب قناعة المؤلف برؤيته لشروط التعلم الناقد والمبدع في بناء المجتمع المعافي, يقدم لنا خبرات دول أخري حول أفضل الطرق في تعليم وتعلم الطلاب من خلال تحدي السلطات المعرفية التقليدية, منها جنوب افريقيا وبريطانيا وسنغافورة وبلغاريا, وفي جميع الأحوال يري أن منهج التحدي النقدي البناء من قبل الطلاب هو الضمان لكي لا تتحول الديمقراطية الي ديماجوجية, والحرية الي فوضي, ويحذر من أن الإرهاب قد يأتي من الداخل, كما قد يأتي من الخارج, والواقع أننا اليوم لا نواجه صراعا بين مختلف الثقافات فحسب, بل اننا نضطرب في صراعات داخل كل ثقافة من الثقافات, تتركز حول طبيعة العملية التعليمية وتنمية البشر, ونوع الرؤية التي تعتمدها لمدي مساحات وامكانات توظيف العقل وتوفير امكانات التغيير والتطور المبدع في نظامها التعليمي. نقلا عن صحيفة الاهرام