يحز في نفسي كثيرا ويؤلمني ان نفرا من المصريين لم يدرك بعد أبعاد التغير الذي لحق بالعالم في العقدين الأخيرين وتحديدا منذ سقوط حائط برلين في9 نوفمبر1989 ويتبدي ذلك من لغة الخطاب السياسي التي يعتمدونها والسلوكيات التي يقومون بها والتي تكاد تكون صورة مكرورة ومعادة بشكل ببغاوي ببعث علي الشفقة اكثر مما يبعث علي اي شيء آخر. فمثلما حدث تغيير في بنية الاشياء والتيارات السياسية فاختفت ايديولوجيات( مثل الشيوعية السوفيتية) وظهرت أخري عبر تجليات ما يسمهي بالنيوليبرالية إلي آخر هذه الأفكار الكبري كان يتعين ان يحدث تغيير في رؤية البعض لقضاياهم والكيفية التي يتناولونها بها اقول ذلك وفي ذهني المشهد الذي يتكرر في واشنطن في كل مرة يتقرر فيها ان يزور رئيس مصر الولاياتالمتحدة حيث تتعالي الصيحات من نفر هنا وآخر هناك بالتهديد والوعيد, ورفع الشعارات الغاضبة التي تصب جام غضبها علي شخص رئيس الدولة. ويجيب هذا النفر أو ذاك عن سبب مثل هذه الافعال المعادية لمصر وحكومتها بأنهم يفعلون ذلك لإحراج رئيس الدولة من ناحية ومن ناحية أخري لاجبار الرئيس الامريكي أيا كان اسمه( بوش الأب أو بوش الابن أو أوباما) علي ممارسة الضغط عليه وفي ظني ان هذا النفر قد غاب عن باله أكثر من حقيقة: ** الأولي أن العلاقات الدولية في الألفية الثالثة لم تعد تؤمن بأسلوب الضغط الذي وان صلح قبل عقدين او اكثر من الزمان فلم يعد له مكان في العلاقات التي تربط بين الدول اليوم ولقد حل محله مبدأ تحدث عنه الرئيس اوباما اثناء زيارته لمصر في4 يونيو الماضي وهو: مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. ** الحقيقة الثانية ان لامريكا مصالح مع مصر لا يمكن التضحية بها لمجرد ارضاء مجموعات ساخطة علي الحكومة المصرية وهي جماعات لا تخلو منها( بلد ديمقراطي او غير ديمقراطي) حتي داخل اوروبا وامريكا ذاتها, وكلنا يعرف تفاصيل كثيرة عن جماعات مصرية مثل اقباط المهجر( وهي جماعات متباينة المشارب والدوافع والأهداف او مركز ابن خلدون ومديره سعدالدين إبراهيم ومنها أنهم رقصوا علي اصابع اليدين( كالقردة) طمعا في استعداء الرئيس أوباما علي مصر وطالبوا خصوصا سعدالدين إبراهيم بالأ يلقي الرئيس اوباما خطابه إلي العالمين العربي والإسلامي من القاهرة لكن رأي اوباما شيئا آخر وذهبت صرخاتهم وتشنجاتهم ادراج الرياح والسبب ان الإدارة الأمريكيةالجديدة لا تعرف شأن الإدارات الجادة العواطف اوالمشاعر وانما كان عليها أن ترجح مصلحتها التي مالت كما شاهدنا باتجاه مصر فجاء اوباما والقي خطابه الشهير من جامعة القاهرة. ** الحقيقة الثالثة هي أن أوباما يريد فعلا لاقولا احداث تغيير جذري( راديكالي) في الشرق الأوسط وذهب إلي أن السير علي نهج جورج دبليوبوش لن يؤدي إلا إلي طريق مسدود, وبالتالي مال إلي فكرة الاعتماد علي آليات القوي الناعمة او القوي الذكية وعلي دول لها خبرتها وتاريخها وريادتها في المنطقة مثل مصر, وهذا معناه انه وان بدأ مقتنعا ببعض مما تقوله الجماعات الخارجة( والخارجية) فليس من الحكمة السياسية ان يضحي بمصالحة ورويته كإدارة جديدة لحساب شعارات قد لا تكون في اغلبها او بعضها صحيحة. ** الحقيقة الرابعة أن احدا لم يعد يصدق ما يقال عن اضطهاد يمارس داخل مصر خصوصا عندما يتردد في الخارج والسبب هو ان الحجة التي كانت تقال من ان التعبير عن مطالب نخبوية او طائفية او دينية ليس مسموحا به هي حجة واهية كخيوط العنكبوت لأن كل شيء أصبح علي المكشوف في مصر فكل الفئات والطبقات والطوائف تتحدث عن نفسها في الصحف والمطبوعات او عبر الشاشات والإذاعات والفضائيات بل انه لا يكاد يمريوم دون ان تكون هناك مظاهرات علي سلالم نقابة الصحفيين او احتجاجات داخل نقابة المحامين والأطباء ناهيك عن وقفات الاحتجاجات لخبراء وزارة العدل أو وزارة الزراعة أو في مصانع المحلة ونجع حمادي والشرقية.. ناهيك عن جامعات مصر( اساتذة وطلابا) وبالتالي فإن السؤال الذي يسنح في النفوس هو التالي ** إذا كان بالإمكان التعبير عن الضيف او الضر من سياسات حكومية بعينها داخل مصر, فما جدوي حشد المظاهرات بين المهاجرين المصريين واستخدام الآخر الفزاع لإرهاب السلطة او الحكومة او النظام. وهنا لا يجب ان نغفل عبارات مهمة صدرت علي لسان قداسة البابا شنودة يطلب فيها من رعايا الكنيسة في المهجر وقف مظاهراتهم او وقفاتهم الاحتجاجية التي تهدف إلي تعكير صفو زيارة الرئيس مبارك وبالقطع فعل قداسة البابا ذلك لانه يعلم قبل غيره ان هكذا سلوك هو سلوك غير حضاري وربما غير أخلاقي ايضا وان ما يقال في الخارج يقال أضعاف اضعافه في الداخل ويلقي الاهتمام من جميع اجهزة الدولة سواء كانت أجهزة حكومية او برلمانية تمثيلية. ** الحقيقة الخامسة أن ما يطلبه بعض اقباط المهجر تحقق حوله اجماع شعبي فمصر الوطن فوق كل اعتبار وكلنا شركاء في أرضه وسمائه وما بينهما ولا مبرر لتمييز ديني او عقائدي او طائفي وتاريخ مصر القديم والمعاصر يروي قصصا لم تعرف تمييزا بين عنصري الأمة إلا في قله من الأحداث واثناء ظروف توتر جماعي ومجتمعي تلفظها العقول السليمة واصحاب الحس التاريخي والحضاري القويم. ويخطيء من يعتقد ان مصر هي مساحة من الأرض والفضاء يصادرها من يشاء لحسابه الخاص وقتما يشاء فالوطن فوق الخصخصة والمواطنة هي العنوان الأكبر والأول والمشترك الذي يعتصم مسلمو مصر واقباطها حول حبله المشدود مصر غنية بالتنوع الديني مثلما هي غنية بفئاتها المختلفة في الريف والحضر, في القرية والمدينة, بصناعها وفلاحيها واعمالها وطلابها وشبابها من الجنسين لا فرق بين رجل وامرأة فشمس مصر للجميع وكذلك مستقبلها نصنعه بأيدينا ومن هنا يأتي أهمية الوقوف امام القضايا المهمة وهي المشاركة السياسية والمجتمعية التي تعتبر العتبة الاساسية التي يجب الدخول منها نحو مصر المستقبل. ولو انضمت اصوات المهجر إلي هذه الدعوة وعملت من اجلها ربما ساعدت في خلق فضاء ارحب نناقش فيه كل القضايا في شفافية وبعيدا عن التعتيم المفتعل( احيانا) والمغذي من جهات مغرضة( أحيانا أخري) اتمني لو تختفي صورة التحرشات المهجرية لعدم جدواها في ناحية ولانها تعتبر خصما من التاريخ الوطني المصري الذي لم يفرق يوما بين مصري وآخر وانما كان رصيدا لوطن سيبقي حتما ونحن جميعا زائلون ثم لأن صدر مصر وهذا هو الأهم أكثر رحابة مما يظنون *الأهرام المسائي