في الوقت الذي تستمر فيه العمليات القتالية على أوجها في غزة وسط محاولة أطراف عربية ودولية للتوصل إلى حل لوقف إطلاق النار وحقن الدماء، تأتي تصريحات الكاردينال ريناتو رافائيله، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلم في الفاتيكان وهو شخصية ذات ثقل كبير في روما، حول غزة وتشبيهه ما يحدث هناك بأنه "محرقة" جديدة، تاتى كمن سكب الزيت على النار، حيث اتهمته الحكومة الإسرائيلية بأنه يستخدم نفس المصطلحات الدعائية لحركة حماس. ويعرف عن الكاردينال مارتينو مواقفه الثابتة إزاء قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث كان يدعو دائما إلى الحوار بين الطرفين، مؤكدا أن التوصل إلى حل للأزمة يستلزم إرادة قوية لأن كلا الطرفين أذنب في حق الآخر وأن الإسرائيليين والفلسطينيين أبناء أرض واحدة، لكن يجب الفصل بينهما كما يحدث بين الأخوة عندما لا يستطيعون الحياة في منزل واحد، ويجب أن يتدخل طرف ثالث موثوق به للقيام بهذه العملية الصعبة، مشيرا إلى ضرورة تحرك القوى الفاعلة لتحقيق ذلك وأن لا تقف مكتوفة اليدين. كانت هذه كلمات مارتينو التي يرددها دائما في تصريحاته الصحفية التي تسير مع الخط الذي ينتهجه البابا نفسه وكبار الشخصيات في الفاتيكان، لكن المقارنة التي أوردها بشأن تشبيه غزة بأنها " معسكر كبير للتعذيب وكأنه محرقة( نازية) التي يدفع فيها السكان بأكملهم تبعات الأنانية" اثار غضب الحكومة الإسرائيلية، وأشعل فتيل الأزمة من جديد بين الطرفين، حيث سارعت الخارجية الإسرائيلية على لسان متحدثها الرسمي ايجال بالمور- في تصريحات أوردتها وكالة الأنباء الفرنسية فرانس برس- إلى استهجان تلك التصريحات ووصفتها بأنها نفس المصطلحات التي تستخدمها حركة حماس في حربها الدعائية، وأن الكاردينال تجاهل الجرائم التي ارتكبتها الحركة وتسببت في تعطيل عملية السلام في المنطقة، واستخدام غزة كلها بواسطة حماس كدرع بشري كبير على حد قول المتحدث الاسرائيلى . يأتي هذا في الوقت الذي ساهمت فيه تصريحات أخرى من جانب شخصيات فاعلة في الكنيسة الكاثوليكية في الأراضي المحتلة في زيادة حدة التوتر، حيث أكدوا ضرورة اعتبار حماس شريكا في الحوار وليس شبحا كما تعتبره إسرائيل والمجتمع الدولي. ودعت الكنيسة الحكومة الإسرائيلية إلى الحوار مباشرة مع الفصائل الفلسطينيين كافة للتوصل لحل معضلة العنف والعنف المضاد وأبدت مخاوفها من أن أحداث غزة ربما تؤدي إلى إلغاء زيارة بابا الفاتيكان المرتقبة في مايو المقبل. ويذكر أن العلاقات التاريخية بين الفاتيكان وإسرائيل مرت بفترات عصيبة من الشد والتجاذب كانت تهدف في مجملها إلى محاولة إيجاد صيغة للتفاهم بين المسيحية واليهودية رغم العداء المستحكم بينهما، بسبب إيمان المسيحيين بثبوت جريمة اليهود في صلب المسيح وقيام البابا جريجوري الثالث عشر في عام 1581 بإصدار حكمًا بإدانة اليهود، نصَّ على أن خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذَّبه تزداد جيلاً بعد جيل، وتحكم على كل فرد من أفراده بالعبودية الدائمة. وقد التزم الباباوات الذين تعاقبوا من بعده هذا الموقف. وفي الأول من مايو عام 1897 عشية المؤتمر الصهيوني الأول.. صدر عن الفاتيكان بيانا شديد اللهجة يدين قيام دولة إسرائيل في فلسطين وعندما توجَّه هرتزل برسالة إلى الفاتيكان طالبًا دعمه.. ردَّ عليه البابا بيوس العاشر بالقول إنه لا يستطيع أبدًا التعاطف مع هذه الحركة (الصهيونية)، مؤكدا رفضه لإقامة وطن يهودي في فلسطين لأنه يتناقض مع المعتقد الديني المسيحي. وقد تعرَّض الفاتيكان لضغوط قوية لتغيير هذا الموقف، وخاصة من الولاياتالمتحدة، فبدأ بعمليات تنازل تدريجي، وأخذت المنظمات الصهيونية تصعد ضغوطها منذ عام 1960 لاستصدار وثيقة من الفاتيكان بتبرئة اليهود من دم المسيح، وقد صدرت بالفعل وثيقة فاتيكانية بعنوان "نوسترا ايتاتي" تعلن أن موت السيد المسيح "لا يمكن أن يعزى عشوائيًا إلى جميع الذين عاشوا في عهده أو إلى يهود اليوم". ومنذ قيام إسرائيل برز موقف تطوري تجاهها، تميَّز بالمزج بين الأحكام الدينية المسبقة والعلاقات السياسية، وعقب حرب 1967.. قام الفاتيكان بإجراء محادثات غير رسمية مع الحكومة الإسرائيلية، بهدف تحديد وضع المصالح الكاثوليكية في فلسطين. وفي 9 فبراير 1981.. صافح البابا لأول مرة حاخامًا يهوديًا (حاخام كنيس روما) ، الأمر الذي اعتبرته الأوساط الصهيونية واليهودية حدثًا تاريخيًا، وسعت إلى جعل المصافحة عملية متتابعة يكون لها دومًا ما يليها في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود، ورأت المنظمات اليهودية والصهيونية ضرورة توظيف عمليات ضغط متزايدة في هذا المضمار، فكان يجري على الدوام التذكير بموقف الفاتيكان من النازية، وأثمرت الضغوط عن صدور وثيقة أخرى عام 1985، تحدَّثت للمرة الأولى عن "إسرائيل مازجة بين اليهود كأتباع ديانة وإسرائيل ككيان. ورأت المنظمات الصهيونية واليهودية أن حملتها بدأت تعطي ثمارها، فاستمرَّت في حملات الابتزاز، وبدا أن الفاتيكان يتعاطى مع الضغوط بجدية، ففي عام 1986.. قام يوحنا بولس الثاني بصفته أسقف روما بزيارة الحاخام الأكبر في روما، ولكن ذلك لم يخفِّف من الموقف، وجرى تضخيم كل موقف يصدر عن البابا، ولا يوافق الأهواء اليهودية في سياق حملة ابتزاز مبرمجة، تلقى تجاوبًا من الكرسي الرسولي. وفي9-8-1989.. قال البابا: "إن الخالق وعد عبر أقواله النبيين ارميا وحزقيال بتحالف جديد مع شعبه في المسيح، نتيجة كفر إسرائيل بإلهها"، وثارت ثائرة اليهود حتى ذهبت الدبلوماسية الفاتيكانية إلى الاعتذار. وليس اليوم ببعيد، فالتصريحات تتكرر والاعتذارات تكرر حتى تهدأ الأوضاع بين الفاتيكان وإسرائيل، لكن النيران تظل دائما تحت الرماد ، قد تشتعل في أي وقت ودون سابق إنذار. .