المصري اليوم: 12/7/2008 كما شرحت في مقالات سابقة فإن المجتمع الأمريكي الآن في مرحلة تحول. معركة الستينيات قد حسمت، وكسبها تيار التغيير والتحرر. وفي الخريف القادم سيتنافس مرشحان لتولي منصب الرئيس، أحدهما لم يكن متواجدا خلال صراعات الستينيات، لأنه كان أسيرا بفيتنام. أما الآخر، فسنه لا تسمح له بتذكر عواصف الستينيات الاجتماعية والسياسية، ومع ذلك فإن أصله ولونه يشكلان أكبر الدلائل علي التغيرات الاجتماعية التي حدثت في الولاياتالمتحدة خلال السنين الماضية. يقر الفكر القومي الليبرالي الأمريكي بحرية الفرد واستقلاليته، لأنه يعترف بعقلانيته وقدرته المستقلة علي الاختيار، بصرف النظر عما يحاول المجتمع فرضه عليه لأسباب فكرية أو معنوية.. هذا هو الأساس الفكري الذي بني عليه، علي الأقل من حيث المبدأ، المجتمع الأمريكي، الذي أسس علي فكرة أن جميع البشر، بصرف النظر عن أصولهم أو هوياتهم، لهم حقوق أساسية لا يمكن الجدل بشأنها، وأن من حقهم السعي لحياة كريمة. هذا المنظور هو الذي تعتمد عليه، من حيث المبدأ، الطبقات الليبرالية عالية التعليم والمهارة الصاعدة بالولاياتالمتحدة أعني هنا أن هذه الطبقات ليبرالية بالمعني الأمريكي، علي عكس المفهوم الفرنسي الشائع عندنا، الذي يهتم بالتحرر الاجتماعي قبل التحرر الاقتصادي لذلك فإن الطبقة الصاعدة المذكورة تهتم بالدرجة الأولي بقضايا العدالة الاجتماعية، داخل المجتمع الأمريكي وخارجه، وكذلك بقضايا حقوق الإنسان والبيئة، التي طالما تجاهلها «اليمين الشعبوي»، الذي سيطر علي سياسات الولاياتالمتحدة من خلال نفوذه علي إدارات نيكسون وريجان وبوش الابن، وضغطه من الخارج علي رئاسة كلينتون. لكن كيف تنظر تلك الفئات الصاعدة لمنطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد للصراع العربي الإسرائيلي؟ هل هناك بصيص من الأمل أن تبني تلك الفئات، المهتمة بحقوق الإنسان المدنية والأساسية، رؤية أكثر إنصافا تجاه الشعب الفلسطيني أو العرب عامة؟ ربما من ألبق وأهم من يمثل ذلك التيار هو كاتب «نيويورك تايمز»، نيكولاس كريستوف، الذي أشار في أكثر من مرة (في عدد 22/6/2008 من نيويورك تايمز مثلا) لفظائع القمع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وحصارهم.. مع ذلك فإن حتي كريستوف لا تفوته الإشارة ل «وجه إسرائيل البراق» أي مقومات الحرية الفكرية والنقد الذاتي الموجودة دائما هناك. فيشير بالخصوص لنشاط الإعلام الإسرائيلي نفسه في كشف فضائح ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي والمستوطنون من تجاوزات، مقارنا ذلك بالنظام «الانتحاري» لحماس. هذا هو ما ينقذ المجتمع الإسرائيلي من اتهامات «الفاشيستية» لدي الغرب، رغم ممارساته العنيفة المعتمدة علي نوع من القومية يتعارض مع مبادئ الولاياتالمتحدة الأساسية، والذي يرتكز علي فكرة الدولة الإثنية الخالصة.. لكن في اعتقادي أن الذي يدفع كريستوف مثل غيره للإشادة بإنجازات إسرائيل «الإنسانية»، رغم فظاعة الوضع في الأراضي المحتلة، هو بالدرجة الأولي المقارنة الدائمة بالأوضاع المؤسفة السائدة بالبلدان العربية، خصوصا بالطبع حين تتحرك الحكومات، كما يحدث عندنا في مصر الآن للأسف، لفرض قوانين ذات طبيعة تبدو مفزعة حقا، في إجراءات تكرس مبدأ الحجر الإعلامي، لتتولي لجان مشكلة من ضباط المباحث والوزراء التفحص في تفوهات الإعلاميين والسيطرة علي ما يمكن أن يقال داخل المجتمع، حتي الإلكتروني منه.. عقل كريستوف وأمثاله يقارن ذلك بالطبع بما يسميه «العقلية الشجاعة المنصفة» للكثير من الصحفيين الإسرائيليين، والمناخ الإعلامي في إسرائيل، حيث لا توجد بالطبع لجان مماثلة يمكن أن تبعث بالصحفيين إلي السجون في غمضة عين. إذا كانت تحركات حكوماتنا الآن تشع في اتجاهات معاكسة للحضارة الحديثة، خلال القرون الثلاثة الماضية علي الأقل وبالذات خلال العقود الأربعة الماضية، فهل يمكن توقع أي نوع من التعاطف أو المساندة من العالم الخارجي، بالذات في الغرب؟ مع ذلك فإن الحكومة المصرية، ومعها الكثير مع العرب والفلسطينيين مازالوا علي أمل، في انتظار نهاية «زوبعة بوش».. لكني أشك في حكمة ذلك، أشك في أن أي حكومة أمريكية قادمة تأخذ في الاعتبار التغيرات المذكورة داخل المجتمع الأمريكي يمكن أن تدع نظاما مثل الذي يحكمنا، بالذات بعد محاولته البائسة لزج تدخل السلطة التنفيذية للسيطرة علي الإعلام، التي تلغي أي أمل كان موجودا بأننا سنلاحق، سياسيا علي الأقل، ركب الحضارة الحديثة.. وللحديث بقية.