الاهرام 9/6/2008 يتساءل البعض لماذا تصاعد الحديث عن المشكلة السكانية خلال السنة الأخيرة ولماذا تصاعدت هذه الوتيرة ليتمخض عنها مؤتمر قومي للسكان تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية ويسترجع البعض الزخم الإعلامي الذي احاط بموضوع السكان خلال الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات والذي تبعه هدوء نسبي اعطي انطباعا بأن الانخفاض الذي شهدته مصر خلال هذه الفترة في معدلات الإنجاب ربما استمر بما لايدع مجالا لإثارة الموضوع مرة أخري. وفيما يلي عدد من الحقائق التي يجب توضيحها في هذا الصدد: 1 إن فترة الثمانينيات ومنتصف التسعينيات شهدت تراجعا في معدلات الزيادة السكانية لو لم يكن قد حدث لكان الوضع الحالي اسوأ وبكثير. ففي حين زاد عدد سكان مصر بين تعدادي1976 1986 بنحو31%, اقتصرت الزيادة في السنوات العشر التالية1986 1996 علي23%, وهو ما اعطي انطباعا بأن التراجع الذي حدث سيستمر ونصل في غضون عقدين أو ثلاثة إلي قدر من الثبات في عدد السكان كما حدث في الدول المتقدمة وفي عدد من الدول النامية. 2 نتائج التعداد السكاني الأخير: أظهرت أن الزيادة السكانية التي حدثت خلال السنوات العشر1996 2006, كانت22.5%, أي أنها لم تتغير عن السنوات العشر السابقة وهو مايعني أن الزيادة السكانية في مصر والتي تقدر بنحو2%, سنويا ظلت ثابتة لمدة عشرين سنة وهو ما اثار تساؤلا ماذا لو استمرت معدلات الزيادة دون انخفاض في العشرين سنة المقبلة؟ وبحسبة بسيطة نجد ان الإجابة كارثية بكل معني الكلمة وان استمرار الزيادة السكانية علي نفس النمط الحالي سيصل بعدد السكان إلي اعداد لاتتحملها الموارد الطبيعية من مياه وغذاء وأرض زراعية ولاتقوي عليها منظومة الخدمات التعليمية والصحية المثقلة بالأعباء ولاتقدر عليها منظومة البيئية الأساسية من مياه وصرف صحي وكهرباء وإسكان. 3 وصل عدد المواليد السنوي إلي1.9 مليون مولود سنويا وحتي يتخيل القارئ مدلول هذا الرقم فإن عدد المواليد السنوي في ألمانيا واليابان مجتمعتين يساوي1.8 مليون مولود وإجمالي عدد سكانهما مجتمعتين يساوي210 ملايين نسمة أي أكثر مرتين ونصف عدد سكان مصر, ويزيد عدد المواليد السنوي في مصر عن عدد المواليد في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا مجتمعة. وغني عن البيان أن الموارد التي ترصد للتعليم وبناء القدرات البشرية في هذه الدول والتي تنفق علي نفس عدد الأطفال في مصر تفوق بكثيرما نحلم برصده لتعليم الطفل المصري, فهل نستطيع في ظل هذه الزيادة السكانية ان نحلم بتوفير تعليم لأبنائنا يقترب ولو من بعيد من المعدلات العالمية؟ 4 التحليل المتعمق لعدد المواليد السنوي في مصر حسب ترتيب المولود يبين أن هناك عددا كبيرا من الاسر المصرية لاتكتفي بعدد معقول من الأطفال, وتشير نتائج الدراسات السكانية إلي أنه يوجد في مصر سنويا350 ألف أسرة ممن لديهم طفلان يقومون بإنجاب طفل ثالث ويوجد سنويا200 ألف أسرة ممن لديهم ثلاثة أطفال يقومون بإنجاب طفل رابع وبالإضافة إلي ذلك يوجد سنويا123 ألف أسرة ممن لديهم أربعة أطفال يقومون بإنجاب الطفل الخامس وأخيرا هناك180 ألف أسرة ممن لديهم خمسة أطفال أو أكثر يضيفون سنويا طفلا آخر ليصل عدد أطفالهم إلي ستة أطفال أو أكثر. 5 يوجد أيضا في مصر نسبة عالية من الاسر تنجب قبل مرور سنتين علي إنجاب الطفل السابق وهو مايشكل مخاطر علي صحة الأم ويحرم المولود الأخير والمولود السابق من تلقي التغذية المثالية. كل هذه الاعتبارات لاتبرر فقط عقد مؤتمر قومي للسكان ولكن توجب تعبئة جهود مختلف مؤسسات المجتمع وأفراده نحو التعامل الواعي والمستمر مع المشكلة السكانية باعتبارها تقلل من فرص المجتمع في اللحاق بركب التقدم وتشغل المجتمع بتوفير الاحتياجات الأساسية لأعداد متزايدة وتصرفه عن الاهتمام بالمستقبل وكيفية تحقيق انطلاقة تليق بدولة مثل مصر. وهنا يجب أن نؤكد أن القوة البشرية هي عماد الحياة وهي التي تدفع الاقتصاد إلي الأمام, فالزيادة السكانية ليست شرا بشكل مطلق ولكن يجب مناقشة مستويات الزيادة السكانية في السياق الذي تحدث فيه, فالزيادة السكانية في دولة مثل كندا أو استراليا تختلف عن الزيادة السكانية في مصر, ويجب أن نؤكد أن نوعية القوة البشرية وليس عددها هو المحك الحقيقي في إحداث النهضة, وأن أي محاولة للنهوض بالتعليم والاستثمار في رأس المال البشري تحتاج إلي موارد كبيرة لن يستطيع المجتمع المصري توفيرها إلا بخيارات وتضحيات صعبة وهو مايجب أن نسعي إليه جميعا مهما تكن التضحيات, ولكن لايجب ان ننسي ان هذه الموارد إذا ماقسمت علي اعداد متزايدة من المواليد فإن نصيب الفرد سيكون غير كاف لإحداث ما نأمله من نقلة نوعية في رأس المال البشري. وبمعني آخر إذا اكتفت كل أسرة مصرية بطفلين لانخفض عدد المواليد إلي نحو مليون مولود سنويا بدلا من1.9 مليون مولود سنويا, ويعني ذلك أن عدد الملتحقين بالسنة الأولي الابتدائية بعد6 سنوات سيكون نصف العدد الذي يتم استيعابه اليوم, ألا يفتح هذا التحول فرصة ذهبية للارتقاء بجودة التعليم إذا انخفض متوسط عدد الطلبة في الفصل من50 إلي25 تلميذا مثلا, ولا اعني ان مجرد تخفيض عدد المواليد هو العصا السحرية التي ستؤدي إلي الارتقاء بالتعليم وإنما هناك حزمة متكاملة يجب تطبيقها بحيث يصبح تقديم تعليم راق ل6 ملايين تلميذ في التعليم الابتدائي حقيقة لاخيالا بدلا من ان يظل تقديم تعليم راق ل12 مليونا في التعليم الابتدائي حلما أو خاطرا أو احتمالا. ولعلي لا استطيع ان اخفي دهشتي للأصوات التي تعلو من وقت لآخر لتقول أن تسليط الضوء علي المشكلة السكانية هو محاولة حكومية لتبرير الصعوبات الاقتصادية التي تواجهنا أو أنها شماعة تعلق عليها الحكومة المشكلات, فمستويات الزيادة السكانية في مصر مقارنة بدول العالم النامي والتوقعات المستقبلية لأعداد السكان إذا استمرت معدلات الزيادة عند مستوياتها الحالية واستمرار عدد غير قليل من الاسر المصرية في إنجاب أكثر من ثلاثة أطفال وتأثير الزيادة السكانية علي ازدياد اعتماد مصر علي استيراد السلع الغذائية مع اتجاه الأسعار العالمية للغذاء للارتفاع ومحدودية الموارد الطبيعية من المياه والأراضي الزراعية, كل ذلك يجعل من المزايدة شكلا من الانتهازية السياسية التي لاتقوي علي مقاومة إغراء تسجيل نقاط وهمية في حلبة المزايدات السياسية والحزبية الضيقة. في ضوء ماسبق لاشك أن إثارة أو استثارة حوار مجتمعي حول المشكلة السكانية بمختلف ابعادها والتي تتجاوز معدلات الزيادة السكانية, يجب أو يحظي باولوية اولي, ولاشك في أن إعادة تشكيل المجلس القومي للسكان تحت رئاسة مجلس الوزراء هو خطوة مؤسسية في الطريق الصحيح, كما ان عقد المؤتمر القومي للسكان وهو المؤتمر الثاني من نوعه بعد المؤتمر الأول الذي عقد في عام1994, سيؤدي إلي تسليط الأضواء علي المشكلة السكانية بشكل غير مسبوق. ونتوقع أن يسهم هذا المؤتمر في توليد قوة دفع داخل المجتمع المصري تؤدي إلي: 1 تحفيز مؤسسات المجتمع الحكومية وغير الحكومية علي التصدي الجاد والمستمر والبعد عن التناول الموسمي للقضية السكانية التي تواجه المجتمع, مع التعامل مع هذه المشكلات من منظور ارحب لايقتصر فقط علي المدخل الصحي مع أهميته وإنما يتجاوزه ليشمل الجوانب الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية والإعلامية والاقتصادية والجغرافية التي كثيرا ما لا تحظي بالاهتمام الكافي والمتوازن. 2 إطلاق المجال أمام المجتمع المدني في تدعيم البرنامج السكاني المصري والعمل علي التوازي في مجال الدعوة لتبني مفهوم الأسرة الصغيرة وفي مجال تقديم خدمات تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية والمجتمع المدني أمامه آفاق رحبة في التعامل مع القضية السكانية بأساليب أكثر فاعلية من خلال دمج البرامج السكانية ضمن برامج تنموية تربط مابين السكان والتنمية بقدر أكبر من الفاعلية في تحقيق الأهداف التي لاتخلو من كفاءة في استخدام الموارد المحدودة. 3 التعامل مع المشكلة السكانية بقدر أكبر من اللامركزية ويمكن ان تلعب اللامركزية دورا كبيرا لاسيما في مجال المتابعة والتقويم وتوفير التغذية الراجعة من مستوي القري المراكز المحافظات الوزارات, ومن المهم تأكيد أن المتابعة المستمرة لتوافر خدمات تنظيم الأسرة الوسائل والمشورة والارتقاء بجودة هذه الخدمات تلعب دورا رئيسيا في تجنب أو تأخير إنجاب آلاف من المواليد الذين ترغب أمهاتهم في تأجيل إنجابهم ولكن تؤدي بعض الاختناقات في اتاحة الوسائل أو توفير المشورة المناسبة في الوقت المناسب إلي حدوث حمل غير مخطط. 4 تعديل السلوك الإنجابي للأسرة المصرية وهي مسألة لن تتحقق من خلال مؤتمر ولكن يمكن للمؤتمر والذي يضع الحقائق والمعلومات الدقيقة حول ابعاد المشكلة السكانية ان يحرك أدوات صياغة اتجاهات الأسرة المصرية الإنجابية من حيث عدد الأطفال الأمثل ومدد المباعدة فيما بينها, وأقصد هنا الأدوات الإعلامية من اتصال مباشر واتصال جماهيري يمكنه ان يسهم في تشكيل السلوك الإنجابي المرغوب دون قصر أو إجبار انطلاقا من ان البرنامج السكاني المصري لايضع عقوبات كما هو الحال في الصين مثلا علي الأسر التي يتجاوز إنجابها عددا معينا من الأطفال. يجب ألا يصبح المؤتمر القومي للسكان مجرد مؤتمرفهو ليس هدفا في حد ذاته ولكنه وسيلة لتحقيق قدر أكبر من النجاحات في إحداث التوازن بين معدلات الزيادة السكانية والموارد المتاحة وتحقيق تطلعات الأسرة المصرية في نوعية حياة أفضل. الى مزيد من الاقلام والاراء