الأهرام: 19/5/2008 نشأت الديمقراطيات الغربية كلها من قاعدة لا ضرائب بدون تمثيل, وعندما قام التاج البريطاني بفرض ضريبة الملح علي رعايا الإمبراطورية في العالم الجديد نشبت الثورة الأمريكية وقامت الولاياتالمتحدة. وقبل ذلك وبعده, كان فرض الضرائب من قبل السلطة السياسية علي المواطنين أهم أسباب الحاجة إلي المشاركة السياسية لكي يتم التأكد من أن الضرائب عادلة, وأن إنفاقها سوف يتم بشكل عادل. ومن هنا جاءت فكرة المجالس النيابية والتشريعية التي كفلت فرض الضرائب, كما حددت سبل إنفاقها ومقاصد الإنفاق. كان ذلك في الغرب, أما في الشرق وفي البلاد العربية بوجه خاص, فقد غابت الديمقراطية كما عرفتها الدول المتقدمة, وتعددت تفسيرات هذه الظاهرة من أول ذيوع ظاهرة الاستبداد الشرقي التي صكها مونتسكيو, وحتي تخلف البني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية بين الحكام والمواطنين. ولكن عالم السياسة الأمريكي جون ووتربيري في جامعة برنستون توصل إلي نظرية مؤداها أن ضعف البنية الديمقراطية في البلاد العربية راجع ببساطة إلي أن الضرائب غائبة عن معادلة السلطة والمواطنين في دول تعتمد علي الريع القادم من الموارد الطبيعية وفي مقدمتها النفط, أو موارد أخري مثل السياحة أو قناة السويس أو تحويلات العاملين في الخارج, أو المعونات الأجنبية. وفي مثل هذه الحالة, وحينما تضعف البنية الضريبية للدولة, فإنه من الطبيعي أن تضعف معها البنية الديمقراطية أيضا, حيث يصبح التمثيل لا معني له في دولة لا يسهم المواطنون كثيرا في مواردها. وربما سوف يلحظ المؤرخون لتاريخ مصر في هذه المرحلة أن تطورين مهمين قد تلازما سويا خلال الفترة الأخيرة: أولهما عندما بدأت الدولة المصرية في تعبئة الضرائب من المواطنين, وبعد أن كان عدد المقيدين في ضرائب الدخل لا يزيدون علي1,3 مليون عام2005, ويدفع منهم أقل من300 ألف بشكل أو بآخر, بينما لم يزيد من يدفع بشكل كامل عن35 ألفا منهم, فإن عدد المسجلين الآن يبلغ3,4 مليون يدفع معظمهم ضرائبهم بشكل كامل, وثانيهما أن التعديلات الدستورية الأخيرة قد أعطت المجلس التشريعي الحق في نظر الموازنة العامة وتعديلها, ومعها أو في القلب منها الموافقة علي الضرائب. والتلازم بين هذا التطور وذاك خلق العلاقة المنطقية بين التمثيل من ناحية, والضرائب من ناحية أخري, وكلاهما حجر زاوية في التطور الديمقراطي. ومن لديه ذرة شك في هذا الارتباط فإن عليه مراقبة المناقشات التي جرت في مجلس الشوري خلال الأيام القليلة الماضية, وما سوف يجري في المستقبل في ذات المجلس أو في مجلس الشعب حيث لم تعد القضية هي الأوزان النسبية لأحزاب المعارضة مقارنة بوزن الحزب الوطني الديمقراطي, ولكن باتت إلي أي حد يقبل أو لا يقبل ممثلو الشعب فرض ضريبة جديدة سوف تضعهم موضع المساءلة أمام المواطنين الذين سوف تتأثر معيشتهم بالضريبة أو بالضرائب الجديدة. مناسبة كل هذه المقدمة الطويلة هي تقدم الحكومة بمشروع قانون لفرض ضريبة عقارية علي العقارات في مصر قدرها14% من قيمة إيجار العقار سنويا بعد خصم تكاليف الصيانة وما في حكمها. ولعشاق الضرائب التصاعدية, فقد أعفت الضريبة الجديدة المساكن القديمة, وكل العقارات التي تقل قيمتها عن300 ألف جنيه, وبعد ذلك تصاعدت قيمة التحصيل حسب قيمة العقار. وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال فقد جري السجال داخل مجلس الشوري حول عما إذا كانت الضريبة الجديدة تمس الفقراء ومحدودي الدخل أم لا, وعما إذا كان ممكنا تخفيض نسبة الضريبة إلي10%, ورفع نسبة الصيانة. ولمن لايعلم, واستنادا إلي خبرتي القصيرة في مجلس الشوري فإن جوهر المناقشات للقوانين المعروضة يدور دائما في واحد من اتجاهين: مدي ملاءمة القانون للشريعة الإسلامية حيث يكتشف نواب الشعب في أنفسهم قدرات فائقة علي الإفتاء في علوم الفقة والحديث, والآخر هو عما إذا كان القانون سوف يمس الفقراء ومحدودي الدخل حيث تنتهي مداخلة دون الإشارة إلي عدالة التوزيع. وعندما عرض مشروع تعديل الضرائب العقارية سار الجميع في الاتجاه الثاني, وجرت المفاجأة التي لم تذكر من قبل في مناقشات أخري أن محدودي الدخل في مصر هم هؤلاء المصريون الذين يمتلكون عقارا قيمته لا تقل عن نصف مليون جنيه!. كل ذلك لا يخل بالطبع بالغني والحيوية التي جرت علي المناقشات في مجلس الشوري والتي أشارت لها الصحف, وبشكل من الأشكال فقد كان التمثيل يتجسد في واقعة ضرائبية, ولكن المسألة كلها كانت عاكسة لدرجة النضج في التعامل مع جوهر العملية الديمقراطية, حيث تجري عملية التعامل مع الموارد العامة. فالحكومة من ناحيتها أتت إلي المجلس وهي لا تعلم الكثير عن عدد العقارات التي نتحدث عن فرض الضريبة عليها, وفيما عدا تقدير سريع لوزير المالية بأن عدد العقارات يصل إلي30 مليون عقار, لا توجد لدي الحكومة معلومات دقيقة إلا عن ثلاثة ملايين أو10% من العدد الكلي, فإن التساؤل يصير قاسيا عما نتحدث عنه علي وجه التحديد, حيث لن نعرف حجم الموارد التي سوف يمكن الحصول عليها, ولن نعرف نتيجة تلك المقاصد التي توجه إليها. وبالطبع لن يفهم أحد أبدا لماذا لم يشتمل الإحصاء القومي علي وسيلة لحصر العقارات المصرية طالما أن هناك إمكانية لحصر البشر, أو أن هذا الإحصاء موجود ولا تعلم الحكومة عنه شيئا! وفي الوقت الذي لاتكف فيه الحكومة عن الاستعانة بكل التجارب العالمية والإشادة بما فيها من حكمة, فإنها هذه المرة تفارق كل ما هو معروف من تجارب يعرفها العالم, فعائد حصيلة الضريبة العقارية سوف يعود للخزانة العامة بينما في دول العالم تعد نوعا من الضرائب المحلية التي تستند إليها المحليات لترقية نفسها. وبعد أن كانت الحكومة تفتخر بتبسيط عملية تحصيل الضرائب بعد قيام علاقة تقوم علي الثقة مع المواطنين فإنها عادت مرة أخري إلي أساليب بيروقراطية تقوم علي لجان لتقدير الضريبة ثم حبال قضائية طويلة للطعن فيما وصلت إليه اللجان سوف تكون كفيلة بالإثقال علي الجهاز القضائي المصري كله. ولا أظن أن هناك دولة رشيدة في العالم تعتمد علي هذا الأسلوب الحكومي في رصد القيمة السوقية للعقارات وكيفية تقدير الضرائب عليها. وفي كل الأحوال فإن الحكومة بدت غامضة فيما يتعلق بأوجه إنفاق هذه الضريبة اللهم إلا أنها سوف تسهم في التقليل من عجز الموازنة العامة, وهو هدف نبيل من الناحية المالية ولكنه يعطي مصداقية لإطلاق وصف الجباية علي سياسات الحكومة. علي الجانب الآخر من المناقشات التشريعية, فإن الولع بقضية الفقراء ومحدودي الدخل, والنظر لها فقط من الناحية التوزيعية بين الغني والفقير, جعل ممثلي الشعب لا يعرفون الفرص التي يتيحها قانون الضرائب العقارية بما فيها دعم من يقولون بالدفاع عنهم. فكما يحدث في كل بلدان العالم فإن توجيه الضريبة العقارية للمحليات فضلا عن تجسيده لفكرة اللامركزية التي يكثر الحديث عنها دون مضمون حقيقي يحقق فوائد جمة فهو من ناحية سوف يجعل عملية حصر العقارات أسرع وأشمل ويتم علي مستوي الجمهورية بطريقة متوازية بحيث لا يحتاج إلي السنوات الأربع التي حددها وزير المالية. ومن ناحية أخري فإن الضريبة سوف توجه مباشرة إلي الاحتياجات التي يحددها المواطنون لأنفسهم ويعرفونها جيدا, ومن ثم فإن هدف الضريبة سوف يكون في حد ذاته دافعا لدفعها دون تحايل. فمهما كان نبل هدف سد العجز في الموازنة العامة فإنه لا يشكل هدفا ملهما للجماهير التي سوف يتساءل كل منها عن مسئولية هذا العجز وعما إذا كان المواطن مسئولا شخصيا عن هذا العجز. والحقيقة أنه لو وجدنا طريقة يمكن بها للمحافظات والمحليات في العموم أن تفرض ضرائبها العقارية الخاصة من أجل سد احتياجاتها فربما تسابقت المحليات المختلفة في هذا المضمار للتعامل مع قضايا ملحة ولا يمكنها كثيرا انتظار كرم الموازنة العامة. ولكن, وعلي الأرجح, فإن السماحة الدستورية لا تتيح ذلك في هذه المرحلة, ومع ذلك يبقي إمكانية أن تكون الضريبة العقارية وسيلة للتعامل مع واحدة من القضايا الملحة في مصر وهي ترقية التعليم الذي يكاد يكون موضع اتفاق عام علي أنه يقف وراء الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضا بل هو السبيل الأساسي لخروج الفقراء من فقرهم واعتلائهم لسلم لا يكون فيه مكان لبطاقات التموين وأموال الدعم. وبالطبع فإن هناك مشكلات كثيرة ترتبط بهذه المقترحات, خاصة بالنسبة للمحافظات التي لا توجد فيها ثروة عقارية كبيرة, أو لا توجد فيها ثروة عقارية علي الإطلاق, وحلها يكون بتخصيص نسبة لها من المحافظات الأخري, أو برفع ضرائب العقارات عنها لفترة زمنية حتي تندفع إليها عملية بناء العقارات وتتراكم الثروة العقارية فتصح عليها الضريبة. الخلاصة, وسواء كنا علي جانب الحكومة, أو ممثلين للشعب, فإن عملية فرض الضرائب ليست جباية أو عقابا أو طريقة لزيادة موارد الدولة لكي تدعم مركزيتها وقدرتها علي التحكم, وهي ليست مناسبة لإعادة توزيع الثروة والحديث عن العدالة الاجتماعية ومتاعب الفقراء, وإنما هي جزء من العملية الديمقراطية التي هي عملية تنموية للبشر والاقتصاد والسياسة أيضا.