أول ما نذكره قبل نقل الصورة القاتمة التي كان عليها أغلب من التقيناهم، نقول ''اللهم لا شماتة''.. فالحقيقة كانت مؤلمة وبقدر ذلك كان إصرار أصحابها على نقلها كما هي ''علها تفي بإقناع مئات الشباب بالعدول عن فكرة ركوب البحر''. وللأمانة فإن من بين العشرات، كان فيهم من يعدون على أصابع اليد الواحدة من نأى بنفسه وحول فرصا أتيحت له إلى نجاح تردده الألسن. الرحلة التي قادتنا إلى مدن إسبانية بدأت من مدينة بالما ديمايوركا، ولكنها لم تستمر كثيرا فوق هذه الجزيرة، لأن صيت أحد ''الكهوف'' التي يسكنها جزائريون قدموا حديثا إلى إسبانيا على متن زوارق صغير'' كان يملأ المكان ويعلم قصته كل جزائري مقيم هناك، بل ودلنا إليه مسؤولون في الشرطة الإسبانية أنفسهم، فكانت الوجهة نحو أليكانت وبعدها إلى مورسيا المقاطعة المحاذية لألميريا، مدينة تنعت بقبلة المهاجرين السريين القادمين إلى إسبانيا، ووراء ذلك أسرار لا يعلمها إلا ركاب البحر، وقصة ''الفيلا الكهف'' كانت إحدى تلك الأسرار حيث يخفي عشرات من الشباب الجزائري محنته، فلا هو وجد جنته الموعودة ولا هو تمكن من العودة من حيث جاء، فكان للبعض أن بقي حبيس المكان لسنوات طويلة ''خشية أن يعلم أهله بواقعه وهو عار في قاموس الحراُّة وعار أكبر أن تعود بأسوأ حال''. مأساة أبطالها شبان جزائريون ونساء لما غادرنا بالما، كان بين أيدينا ملف كامل عن حراُّة جزائريين يقبعون في السجون الإسبانية، وقليل فقط من نجا من قبضة رجال الأمن لأسباب تعود لانتشار الرقابة الأمنية المشددة على شواطئ الجزيرة التي تبعد بمئات الأميال فقط عن ميناء دلس بولاية بومرداس، فأغلبهم حولوا إلى مراكز في فالنسيا وبقي في سجن هذه الجزيرة عدد قليل ممن اتهموا بقيادة الزوارق، ووجهت لهم تهم الاتجار بالبشر، من بين هؤلاء تفوح قصة (م. مصطفى)، لأنه لسبب بسيط رب عائلة وأب لعدة أولاد ساقته الأقدار يوما ما لأن يبحر ب36 شابا من شاطئ دلس. مصطفى حكم عليه بالسجن أربع سنوات، يقول عنها في إحدى رسائله التي اطلعنا عليها في مكتب نور الدين بلمداح، رئيس الفدرالية الأوروبية لجمعيات الجزائريين، مؤرخة بتاريخ 22 أفريل الفارط، ''ليس بإمكاني العمل داخل السجن وطلبت رخصة خروج فرفضت، هناك سوء معاملة من طرف الحراس والقهر، منذ نصف شهر تعرضت للضرب المبرح من طرف حارس معروف بعنصريته''. ولكن مع قلة عدد المهاجرين الذين وصلوا بالما وبقوا فيها، فإن الكثير من الحكايات عنهم ترددها الألسن هناك، وفيها ما يضحك سيما حين يتعلق الأمر بالتحقيقات التي تجريها فرق الدرك مع الوافدين الجدد ومحاولات الحراُّة إخفاء جنسيتهم لتفادي الطرد. ومن بين ما سمعناه من مسؤولين في الشرطة ببالما أن أحد الجزائريين الذين قدموا على متن زورق من دلس، سئل عن المدينة التي قدم منها فكان رده ''جئت من إسلام أباد''، ووجه له سؤال ثان حول الشارع الذي يوجد فيه منزل عائلته فرد ''شارع أول نوفمبر''، ولسوء حظه كان مترجم الشرطة جزائريا، فحول مباشرة إلى مركز فالنسيا. كما هناك من القصص التي ينكت بها رجال الشرطة والدرك أن للجزائريين قدرة خارقة على تفادي الرادارات المنصوبة في الشواطئ، فيقول أحد المسؤولين ''الرادارات القديمة تحدد الزوارق كنقاط فقط، وحين نرى تلك النقطة تتقدم نحو الشاطئ بشكل عمودي نعرف أنها لحراُّة... لكن الجزائريين تفطنوا وباتوا حين وصولهم يميلون يسارا ويمينا بزوارقهم لمدة ساعات حتى نعتقد أنهم سواح، لذلك فكرنا في جلب رادارات أكثر تطورا''. ولم يكن بالإمكان البقاء أكثر في بالما، مادام هناك ما يثير من قصص في مورسيا، سمعنا أن كثيرا من الشباب في تلك المدينة يسعى جاهدا للحصول على فرصة للعودة للجزائر، وهو ملف أعقد من ملف الهجرة السرية نفسه. مورسيا مدينة تتوسط أليكانت التي تسكنها جالية كبيرة من الجزائريين، وألميريا غربا، وأغلب الزوارق القادمة خاصة من الغرب الجزائري تصل إليها أو عند حدودها، هكذا فهمنا من حراُّة التقيناهم أول الأمر عند بوابة جمعية الأيام، وهي تنظيم يعنى بملف الجالية الجزائرية تستقر في قلب مورسيا، وجدنا بينهم ''ل. عمر'' شاب في 27 من عمره، قدم من ولهاصة قبل ثمانية أشهر ''شهر رمضان الفارط'' ويبحث منذ ذلك الحين عن فرصة للعودة للجزائر، وتبين أنه لا يبرح منذ جاء أحد المقاعد في ساحة عمومية قبالة الجمعية ينتظر منها مساعدة لتمكينه من العودة. يقول ''عمر'' الذي طلبنا منه مساعدتنا في الوصول إلى أماكن تجمع حراُّة مثله ''جئت غلطة أنا وأخي على متن زورق واحد فهو الذي كان يقود بنا الرحلة نحن الخمسة''. أصحاب الأراضي استعبدونا وقوتنا من المزابل كان ''عمر'' أحسن حالا من غيره على حد قوله ''فأنا على الأقل عملت مدة 20 يوما طيلة الأشهر الثمانية التي قضيتها هنا''. ويروي ''قضيت عدة ليال في إحدى الغابات بألميريا التي رسا بها مركبنا، بعدما قضينا 71 ساعة في البحر وكنا صائمين''. ولكن مورسيا، حسب ''عمر''، شدت أسماعنا بعد علمنا بتواجد حراُّة كثر بها ''قدمت إلى مورسيا واشتغلت في الطماطم والعنب والسلطة والزيتون''. ثم يسألني ''أتدري لماذا تمكنت من العمل20 يوما؟ ... لأن موقع تلك الأراضي الفلاحية في قمة جبل يرفض الشباب الإسباني العمل فيها بل وحتى حراُّة آخرين رفضوها لمشقتها، وهذا ساعد أصحاب تلك الأراضي في استعبادنا''. ويختم ''عمر'' الذي كان يرافق شابا من وجدة المغربية قدم هو أيضا على متن زورق: ''الإنسان يقعد في بلده أحسن، كنت أعمل في البناء في مغنية واليوم نجمع قوتنا من المزابل''. ولم نكد نكمل كلامنا مع ''عمر'' حتى تقدم منا ''خالد مدني''، وهو جزائري يشتغل بجمعية الأيام ومعروف عنه إلمامه بملف الحراُّة، ليخبرنا أن في مكتبه قصة أخرى بطلتها امرأة جزائرية وأم لأولاد عاشت الجحيم لكي تصل حراُّة إلى إسبانيا، اسمها ''خيرة الوهرانية''، تمكنت من الوصول إلى مورسيا بعد ثلاث محاولات كاملة لتخطي البحر، اثنتان منها فشلتا وقضت بسببهما فترة سجن في إحدى المدن المغربية، ولكنها نجحت في الثالثة. كان مظهر ''خيرة'' لا يدل على أنها في حالة سيئة، وعلى العكس كانت تبدو من الطبقة البرجوازية، لكنها تقول ''أحاول الظهور بهذا الشكل حتى لا أثير الاهتمام ما دمت بلا وثائق هنا منذ عام ونصف''. ''خيرة'' أم لثلاثة أولاد، أصغرهم غامر معها ثلاث مرات، ونجح معها في دخول سبتة الإسبانية ''بعدما رهنت منزلي وبعت كل حاجياتي ودفعت لشخص مغربي ما يقارب 30 مليون سنتيم''. كان من الصعب فهم دافع هجرة ''خيرة''، لكنها تجيب دون أدنى تردد ''فكرت في المغامرة أنا أولا قبل أن يكبر أولادي الثلاثة وأراهم ربما جثثا إذا فكروا في الهجرة يوما ما''. كانت قصة ''خيرة'' طويلة ومؤلمة ''زادت أحوالي سوء بعدما حاولت السلطات الإسبانية أخذ ابني مني بحجة أنه لا يعيش حياة كريمة، لكني بقدرة الله تمكنت من إرساله لوحده على متن باخرة من أليكانت نحو وهران لإنقاذه، واليوم أنا وحدي هنا ولم أجد من حل للعودة إلى بلدي''. ''الفيلا الكهف'' تخفي ألف مأساة جزائرية بعد قليل من التقصي في جمعية الأيام ومع محدثنا السابق ''عمر'' عن المكان الذي يبيت فيه الوافدون الجدد على متن زوارق، وكيف يعيشون أيامهم، بدا رد محدثينا مبهما، فقط لأن في مورسيا مأساة تعلم بها السلطات ويعلمها أهل المنطقة جميعا. يقول ''عمر'': ''نأكل في المركز وفينا من يبيت في البرُّي (مقر تسمح فيه السلطات الإسبانية بالمبيت للحراُّة لمدة شهر في أقصى تقدير) والبقية يبيتون في الفيلا المهجورة''. فهمنا من كلام عمر أن هناك الكثير من أمثاله وأن موعد تجمعهم محدد عند منتصف النهار في أحد المراكز التي تقدم فيها بعض الأطعمة للحراُّة ''كل حراُّ له بطاقة صغيرة يأكل بها مدة شهر واحد، وبعدها يتدبر حاله''. ولم ننتظر كثيرا للتوجه إلى المركز الذي يوجد في الجهة الخلفية لمديرية الشرطة للمدينة، وعند مدخله توزع بعض رجال الشرطة لمنع تسرب من لا يمتلكون تلك البطاقات ''التي تعني لأصحابها أن قرارات قد صدرت ضدهم بالطرد''. وقفنا عند المدخل وبدا المشهد كأننا في أحد الأحياء الشعبية في الجزائر، فمع مرور الوقت بدأ توافد شباب جزائريين في شكل مجموعات، فالمكان مخصص للحراُّة فقط، إلى درجة أن شابا جزائريا كان يهم بالخروج تقدم مني وسلمني قارورة عصير ظانا أنني حراُّ ولا أملك بطاقة المطعم، لكن سرعان ما فهم هؤلاء حقيقتنا وتشكل من حولنا طابور من الفضوليين ممن أرادوا سرد قصتهم ونقلها، على حد تعبير بعضهم، لأصدقائهم وعائلاتهم ''لدفع الراغبين في الهجرة لعدم المغامرة''. كان هناك حميد وعفيف من عين إبراهيم، وأيضا محمد ونور الدين من سيدي لخضر بولاية مستغانم، وجميعهم وصلوا الشاطئ الإسباني منذ أقل من شهر. يقول نور الدين ''أتدري... يقدمون لنا لحوما غير مذبوحة وأحيانا لحم الخنزير، ويقف عند رأس كل واحد منا حارس، إن رفضت الأكل تمزق بطاقتك وتطرد وتمنع من دخول المركز مجددا، كما يمنعوننا من إخراج الأكل حتى لا نطعم آخرين لا يملكون بطاقات''. أما 32 عاما، وهو ابن قرية عين إبراهيم، فيقول ''كل ما أراه هنا أنا راض به فقط لأنني نجوت رفقة أصدقائي من موت مؤكد''. ويتابع ''كنا ثمانية وقضينا قرابة العشرة أيام في المتوسط، بل ووصلنا إلى حدود المحيط الأطلسي غربا وكنا على شفا الموت''. ولحسن الأقدار يقول ''سحبتنا باخرة روسية نحو الشاطئ الإسباني دون أن يصعدونا على متنها خوفا من رفض السلطات الإسبانية استقبالنا... كان المنظر بائسا وأتذكر دموع شاب عمره 15 عاما كان معنا''. وينطق ''محمد'' مقاطعا صديقه ''نفكر في العودة ولكن لا أحد بإمكانه تحمل ثمن التذكرة، وإن أردت رؤية المزيد فما عليك إلا زيارتنا ليلا''. كان ''محمد'' يشير إلى الفيلا التي تؤوي المئات وهو أحدهم ''نعيش فيها منذ وصولنا برفقة جزائريين آخرين لكل واحد قصته، وهناك من ينام في البرُّي الذي هو مركز عمومي يمكنك المبيت فيه ل15 يوما وتجدد مرة واحدة ثم تطرد''. ضربنا موعدا مع المجموعة عند مغيب الشمس حيث يتجمع مئات الحراُّة استعدادا للنوم، وطلبنا من رفيقنا ''عمر'' البقاء معنا لكي يكون دليلنا للوصول لاحقا، ومع مرور الساعات تقدمنا نحو أحد أطراف مورسيا، كانت السيارة تقطع المنطقة الحضرية باتجاه مساحات تبدو الحياة بها أبسط وأقل رفاهية، مررنا أول الأمر على ''البرُّي'' الذي لم نتمكن من دخوله بسبب إصرار الحراس على استحضار رخصة من الشرطة، وبدت بالداخل رؤوس حراُّة جلسوا في ساحة المركز يتسامرون، فلا أحد بإمكانه الدخول إلى المركز عقب السابعة مساء، ولا أحد أيضا يترك فيه بعد السابعة صباحا ''عليك أن تق12 ساعة في الخارج ويسمح لك فيه بالنوم فقط'' يقول ''عمر'' الذي قضى بالمركز شهرا كاملا وطرد منه لفسح المجال لحراُّة جدد.