على رغم قلة المعارضين العددية (نحو 10 دول من 26)، لم تنتزع القيادة الأميركية من قمة حلف الأطلسي ببوخارست، في 2أبريل إدراج أوكرانيا وجورجيا في «خطة العمل المؤدية الى الانضمام» («ماب») الى الحلف. والدول المعارضة أو المتحفظة، على تفاوت في التحفظ، هي، مجتمعة، قلب أوروبا «القديمة»، وقلب الاتحاد الأوروبي، وشطره الراجح، وفي مقدمها وصدارتها «الزوجان» الألماني والفرنسي. ولعل مصدر قوة الحجة الأوروبية، أو أحد مصادرها الحاسمة، هو قيام الانضمام الى «منظمة معاهدة شمال الأطلسي» من دخول الاتحاد الأوروبي وعضويته الاقتصادية، في المرتبة الأولى، مقام المرحلة الإعدادية والأخيرة. وعلى رغم إخفاق هذا النهج، والشاهد الأبرز هو تركيا العضو المؤسس في الحلف والدولة المنتظرة الهوية الأوروبية منذ أربعة عقود، لا تزال الولاياتالمتحدة تأمل في اضطلاع الحلف الذي تقوده بهذا الدور. وبعض الدول المرشحة الى العضوية، ولا سيما الطرفية منها مثل جورجيا الى الشرق ومقدونيا الى الجنوب، تخلط «الأطلسي» بأوروبا وازدهارها، وبالحماية الأميركية، على ما لاحظ أحد الصحافيين الروس. وعلى رغم تعجل الرئيس الأميركي وعد الدولتين الشرقيتين جارتي روسيا وصاحبتي الثورتين «الملونتين» الأولين (الوردية والبرتقالية)، قبول ترشحهما الى «الخطة» في القمة الوشيكة، استعجال الرئيس الجورجي الإعلان عن القبول، لم يفت الجورجيين والأوكرانيين، ولا فات المقدونيين، ان العزيمة الأميركية وحدها لا تفي بالغرض، وأن التصميم الأميركي نفسه غير قوي. فإسراع الرئاستين، الفرنسية والألمانية، إلى إعلان تحفظهما بينما هما تفاوضان روسيا على اتفاق نقل الطاقة الى أوروبا ويوشك المتفاوضون على إنجاز الاتفاق، وتستبقان الموافقة على نصب الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ بشقيها، وبينما تعلن فرنسا عزمها على العودة الى قيادة الأطلسي العليا المندمجة «شايب» في غضون سنة ويتعهد رئيسها إرسال نحو 800 جندي إضافي الى فغانستان – الإسراع هذا كان قرينة على مقايضة فوق ما هو دليل على رفض. قمة الأطلسي في بوخارست :- وأما من وجه آخر، فالرئيس الأميركي كان يدرج في جدول أعماله عند منصرف ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الجورجي، من واشنطن، قمة غير رسمية مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين في المنتجع الشتوي الذي يعده الروس الى دورة الرياضات الشتوية في 2012. والموافقة على ترشح الدولتين، السوفياتيتين الى وقت قريب، والعضوين في مجموعة الدول المستقلة، الى حلف نشأ على مقارعة الاتحاد السوفياتي واحتوائه ولجمه، وذلك في أعقاب الموافقة على الدرع الصاروخية وتبني استقلال كوسوفو وانسلاخ الإقليم عن صربيا، لم يكن تأويلها بغير المبادرة الى «عمل عدواني وحربي» على روسيا، يسيراً أو مستساغاً. وعلى هذا، استطاع الأوروبيون استمالة السياسة الأميركية من طريق مقايضة أو صفقة لا يخرج أحد منها خاسراً، لا واشنطن ولا أوروبا بشقيها، ولا روسيا. ولم يُرفض ترشح الدولتين، وأرجئ النظر الإيجابي فيه الى قمة العام القادم في الذكرى الستين لإنشاء «منظمة المعاهدة». وذهب رئيس استونيا، توماس ايلفيس، الى ان تعهد القمة أقوى من «خطة العمل». والذكرى الستون هذه، يفترض فيها ان تناقش ما أرجئت مناقشته طوال الأعوام ال17 المنصرمة، أي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتصدعه العسكري، و «خسارة» الديموقراطية الليبرالية الغربية، الأوروبية والأطلسية، عدوها. وهو عقيدة حلف الأطلسي ومذهبه السياسي والعسكري. والحق ان إرجاء النظر في انضمام الدولتين يعود، من بعض الوجوه غير الظرفية، الى ما يشبه الإجماع على إلحاح تعريف جديد لوظيفة الحلف الأوروبي – الأميركي، أو «مفهوم» جديد على قول رؤساء أركان جيوش أطلسية سابقون، في عالم شهد انقلابات كبيرة في العقد ونصف العقد الماضيين، تقنية عسكرية، وجغرافية استراتيجية، وسياسية واقتصادية. فقبل 11 سنة، دعا «إعلان مدريد» الى إنشاء «حلف (أطلسي) جديد» تنبسط رقعته إلى أوروبا كلها، ولا يغفل عن تبلور هوية أوروبية خاصة ومتميزة في مضمار الأمن والدفاع. وفي العام نفسه، 1997، أقر الحلف وثيقة الأطلسي – روسيا التأسيسية. وأزمعت الوثيقة ضم موسكو شريكاً استراتيجياً للحلف، وأنشأت مجلس الأطلسي – روسيا، وهو هيئة استشارية تجتمع دورياً، وتعاونها لجان تنشأ، حين تدعو الحاجة. وتسهر على تنمية الاتجاهات المشتركة بين القطبين الاستراتيجيين. وإلى اليوم، لم تثمر البيانات والإعلانات والعزائم هذه. وفي الأثناء تبلور على نحو واضح وحاد مذهبان استراتيجيان، أميركي وأوروبي. فانبعثت في الولاياتالمتحدة نزعة قومية تميل الى الانفراد، وتنكر على الحليف الأوروبي تقاعسه وقعوده وعزوفه عن استعمال القوة العسكرية، وتعويله على التعاون والمفاوضة والدمج الاقتصادي. ونصبت أوروبا، في الأثناء، كثرة الأقطاب الدوليين، والائتلاف الطوعي الداخلي والخارجي، والوساطة الديبلوماسية، مذهباً وعقيدة. والمذهبان هذان سبقا 11 ايلول (سبتمبر). وكانت معالجة الأزمة البلقانية الطويلة مناسبة إعلان الخلاف وذريعته. وانفجر الخلاف إبان الإعداد الأميركي لحرب العراق، أربعة أعوام بعد تولي حلف الأطلسي، في 1999، معالجة الفصل الأخير من تداعي يوغوسلافيا. واختبرت القوات الأميركية، بأفغانستان والعراق والصومال وباكستان، مباشرة، وبلبنان وفلسطين والسودان واليمن وآسيا الوسطى وشمال افريقيا على نحو غير مباشر، ضرباً من الحروب الجديدة، غير المتكافئة، المدينية والأهلية والإرهابية، يقدر الأميركيون انها الصورة الماثلة لحروب المستقبل القريب. وتبادر روسيا، منذ تجدد الطفرة النفطية، الى سياسة اعتراضية، لم يتجاوز اعتراضها الخطابة الى الفعل بعد. وإطار قرارات قمة بوخارست هو تشابك القضايا هذه كلها في آن، وتأخر حسم معظمها بينما جبهتا «الحرب على الإرهاب»، الأفغانية والعراقية، تمتحنان الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، والموارد البشرية والاقتصادية، الأميركية امتحاناً عسيراً وغير حاسم. وتشبه جورجيا، ومنازعاتها الداخلية والإقليمية وجوارها الروسي، بلدان الشرق الأوسط الكبير شبهاً يقلق الأوروبيين، وكثيراً من الأميركيين. فجنوح الخلاف السياسي الداخلي الى الانقسام الأهلي، وانزلاق الحكم الى التوسل بأحكام الطوارئ، وروابط الإقليمين الانفصاليين (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) بدولة إقليمية قوية ولا تقيدها معايير العلاقات الدولية السوية، تخالف اشتراطات حلف الأطلسي السياسية و «الحضارية». ولا تعصم أوروبية أوكرانيا البلد من أشراك الانقسام والتنازع اللذين يتهددان تماسك الأوكرانيين. والتماسك الشعبي في إطار هيئات ديموقراطية وليبرالية شرط أساس ومبدئي من شروط عضوية حلف الأطلسي وعلى هذا، ينبغي ان يستفتي الأوكرانيون، في غضون السنة الآتية، في عضويتهم الأطلسية، على ما تعهد الرئيس الأوكراني ورئيسة الوزراء. وحين يباهي الجورجيون باستجابتهم شروط «الأطلسي» العسكرية والتقنية والتسليحية، ويؤكد هذا المراقبون والخبراء، يتعمدون صرف النظر عن شروط أصعب بكثير تطاول الشروط السياسية والحقوقية والاستراتيجية. وبعض هذه الشروط بمنأى من مطالهم وإرادتهم. وينقسم الأوروبيون والأميركيون عليها، وعلى ترتيبها ودورها. وقمة بوخارست مرآة ملطفة ومهذبة للانقسامات وعواملها.