نظرية 'زحف القارات' اي تباعدها، واحدة من أبرز النظريات التي اثارت موجة عارمة من الجدل والاختلاف بين العلماء على مدى السنوات الطويلة الماضية والى وقتنا الراهن. بطل هذه النظرية، هو العالم الالماني ألفريد فاكنر الذي فجر فكرة زحف القارات، في وقت كان فيه بقية العلماء الالمان يغطون في نوم عميق، حتى انه لم يكن ليتصور انه قد طرق واحدة من اكثر المواضيع حساسية في اوساط الرأي العام، خصوصا في اوساط العلماء الذين كانوا منشغلين بأمور اخرى تتعلق بمواضيع العلوم التقليدية التي هيمنت على الحياة العلمية في مطلع القرن العشرين. ففي بداية القرن العشرين، رمى فاكنر بفكرة تقول 'ان القارات قد زحفت بصورة تدريجية مبتعدة عن بعضها بعضا'، ولما سمع بهذه الفكرة بقية العلماء، صفع بعضهم جبهته، واطلق العديد من العبارات القاسية بحقه، حتى انه وصم بصاحب 'النظرية المجنونة' و'النظرية الخطرة' و'نظرية بلا معنى' و'نظرية غير مسؤولة'.. الخ. سيرة ذاتية:- ولد الفريد فاكنر في عام 1880 في عاصمة المانيا الموحدة 'برلين' ودرس علم الانواء والكواكب في هذه المدينة، وحين بلغ عمره الثامنة والعشرين، بدأ يحاضر في جامعة 'ماربورغ' وفي منتصف عام 1914 اصيب بسبع طلقات نارية اثناء مشاركته في الحرب في سراييفو، التي اندلعت بعد محاولة اغتيال الزعيم النمساوي فرديناند دتيه وبسبب اعاقته، قام القادة العسكريون بنقله الى الخدمة في مركز الانواء الجوية العسكري. وفي عام 1915 اصدر كتابا تحت عنوان 'حول اصل القارات والمحيطات' واسم الكتاب يتشابه مع اسم كتاب دارون المعنون ب'حول اصل الكائنات الحية'، وهذا الاختبار لم يكن محض صدفة، وانما اختاره فاكنر بعناية. وكما هي الحال بالنسبة لكتاب دارون، فان كتاب فاكنر اثار ضجة كبيرة في اوساط العلماء، وبعضهم عبر عن عدم ارتياحه لهذه النظرية. وقد هاجمه الفيلسوف الانكليزي الشهير فرانسيس باكون، مشيرا الى ان فاكنر هو عبارة عن متخصص في علوم الانواء وهو غريب على المجمع العلمي، فلماذا يغرس هذا الشاب الوقح انفه في مثل هذا الموضوع الذي ليس له به شأن'. وتعتمد نظرية فاكنر على جملة اختبارات اجراها في فترات مختلفة. ومن بين هذه الاختبارات دراسته للاصداف الموجودة على سواحل المحيطات المتباعدة وكذلك احجار الجبال ونوعية الكائنات الحية، ووجد ان الاجزاء المختلفة لهذه الاصداف والاحجار والكائنات الحية متشابهة جدا، وهذا يعني في اعتقاده ان هذه الاجزاء كانت متصلة فيما بينها في الماضي السحيق ولم تكن هناك فجوات او حدود بين القارات. لكنه سأل نفسه عن الطريقة التي تم بها زحف القارات او ابتعادها عن بعضها بعضا، فهل تم ذلك بفعل عوامل طبيعية او بسبب المتغيرات التي واجهت العلاقة بين القمر والارض؟ واخيرا ادرك ان ذلك لم يكن السبب الرئيسي او الصحيح، مشيرا الى 'ان نيوتن لم يكتشف بعد نظرية زحف القارات'. وبمجرد ظهور كتابه هذا، بدأت حملة من الهجوم المركز ضده وضد افكاره المطروحة، فعالم الرياضيات والجيوفيزيائي البريطاني هارولد جيفريس اشار الى ان 'القوة المؤثرة الواقعة في اتجاه خط الاستواء وكذلك القوى الاخرى الموجودة على الخطوط البيانية الطولية والعرضية للارض اضعف بمليون مرة من تلك القوة الضرورية لاحداث 'زحف القارات'. وربما يتفق الكثير من المختصين على ان القارات كانت في الماضي السحيق متصلة في ما بينها بأحزمة ضعيفة من البرية، كما هي الحال بالنسبة الى اتصال شمال وجنوب اميركا، وهذه الاحزمة الضيقة اخذت تتآكل وتسقط في مياه البحر في اوقات متدرجة، ولكن هل يعني ذلك ان القارات كانت تزحف او تنتقل الى مواقع اخرى؟ يقول العديد من المهتمين بهذا النوع من العلوم 'ان فكرة فاكنر تبدو غبية، وعليه ان يعود الى اهتماماته الخاصة والا يتدخل في شأن العلوم الطبيعية'. في عام 1922 ظهر على المسرح واحد من اكبر خصوم فاكنر، وهو الجيولوجي البريطاني فيليب لاك، الذي قال عن فاكنر 'انه لم يدقق في الحقائق، فهو يحكم على حالة ما زالت تحت المحاكمة، لكنه بصير ولا يرى اي حقيقة في هذا الشأن، حيث يحاول ان يربط اجزاء مبعثرة الى بعضها بعضا، واذا فعل ذلك، فلا يوجد ثمة نجاح لاي دليل على ارجاعها او وضعها في المكان الصحيح، ولا يوجد اي اثبات ان هذه الاجزاء تعود الى ذلك الجسم الواحد، او انها عبارة عن اجزاء كاملة لحقيقة معينة'. بيئة :- وقد اثار لاك ادلة ادعى انها ادلة موثقة، كما وكان لاختيار لغة المخاطبة التي اتبعها دور في اثارة الرأي العام لا فقط بين المختصين وانما أيضا بين عموم الناس ضد فاكنر الذي لاقى بفعل ذلك استنكارا منقطع النظير. وفي الطرف الآخر من الاطلسي لم يلاق فاكنر اي تفهم ايضا، فعلى سبيل المثال سأل الجيولوجي توماس كامبرلين 'هل يمكن للجيولوجيا ان تعتبر علما متكافئا، حينما تتحول الى مجرد غابة'. واراد بذلك توصيف جهود فاكنر العلمية بانه يقوم بخلط الاوراق. ويضيف كامبرلين 'ان مثل هذا الحديث يدور حول قصص وخيالات يمكن لها ان تطفئ عقول الطلاب'. واضافة الى كامبرلين، فقد وقف الكثير من العلماء ضد فاكنر الذي يبدو انه عالم غير محظوظ، فقد انطلقت ضده اكثر الملاحظات ايذاء من قبل الجيوفيزيائيين. وكما اشرنا، فان فاكنر قد اثبت بان القارات تتكون من مواد حجرية تكون اكثر صلابة في الطبقات السفلى من المحيطات وهشة في الطبقات العليا، وتصبح سائلة في عمق الطبقات السفلى بفعل الحرارة، وحين تنطلق الى الخارج تفسر نوعية هذه الطبقات، وهي تتشابه في سواحل المحيطات المتباعدة التي تحدد القارات، وعليه فان هذه القارات كانت مرتبطة فيما بينها في الماضي، لكنها زحفت لاسباب غير معروفة وتباعدت وغمرت المياه المناطق التي تحدها. وفي عام 1943، حيث انقضى نحو 13 عاما على وفاة فاكنر كتب العالم الاميركي جورج سيمبسون 'ان انتشار الكائنات اللبنية تساند الفرضية التي تقول ان القارات كانت على طول الحقب القديمة الماضية منطقة واحدة وآمنة لمعظم هذه الكائنات'. حينما شهد منتصف القرن التاسع عشر اول اتصال قاري بواسطة 'الكيبل' الممتد عبر المحيط الاطلسي، ظهر في عمق الاطلسي اخدود متماسك لا جوف له. وهذا الموقع هو جزء من مشط طويل من الصخور، ويشكل نسخة طبق الاصل من الصخور الموجودة على سواحل اميركا واوروبا وافريقيا. وبد ذلك بفترة ظهرت في عمق المحيط العديد من هذه الاخاديد المتشابهة. ومن خلال الاختبارات اللاحقة التي اجريت في القرن العشرين، ثبت ان اي قعر من قعار البحر ليس اقدم من مائتي مليون سنة، وبالقرب من اليابسة، فان هذا العمر يعتبر عمرا طفوليا. ان هذا الاكتشاف، يدحض بشكل كبير نظرية ظهور اليابسة والمحيطات في لحظة واحدة. والاكثر من ذلك، فان قشرة اليابسة فيها تركيبات مختلفة عن قشرة المحيطات، والتي هي في نفس الوقت اكثر طراوة او رقة. ولذلك فان ضرورة التفريق العلمي بين النشأتين لتصبح طبقا للاختبارات مسألة مؤقتة. وحسب هذه الاختبارات فان قعر المحيطات قد تشكلت بفعل الحمم البركانية والتي كانت تنساب بصورة بطيئة من قمم الجبال وحتى السهول. وفي الخمسينات الاخيرة، فقد جرى فك اللغز بصورة جلية، فالجزء الخارجي من الارض قد قسم الى عدة طبقات واجزاء اصلية. وتحت الجزء المكون للمحيطات، فان كثافة الارض تبلغ من 6-130 كيلومترا. اما تحت اليابسة فتبلغ من 30-300 كيلو متر. وهذا التقسيم للطبقات يسمى ب'ليتوسفيرا'، واذا التقت او اصطدمت طبقة من هذه الطبقات بطبقة اخرى، فيمكن ان تتولد رجة قوية تشبه الهزة الارضية. الخلافات حول 'زحف القارات' لازالت مستمرة في وقتنا الراهن. وهناك عدد كبير من العلماء ربما يكون متأكدا، بان طبقات اليابسة هي طبقات غليظة بصورة كبيرة.وهي لا تتأثر بالبحور، وتحافظ على تركيبتها. وعلى اي حال، فان فاكنر طرح رأيا جديدا، وغريبا، وان بعض الاختبارات ربما تتوافق مع هذا الرأي، وقد افترض فترة زمنية لانفصال القارات، حيث يشير الى ان هذا الانفصال قديم منذ مائتي مليون سنة. وآخر الافتراضات تقول انه وخلال مئة مليون سنة قادمة، فان القارات ستعود للاتصال مجددا. كان فاكنر قد بدا متضايقا من الاعتراضات التي واجهت نظريته في حينها، ولكن ليس بالقدر الذي يجعله يعاني كثيرا من هذه الاعتراضات. لقد توفي فاكنر عام 1930 ولم يكن يدرك بان نظريته ستواجه المزيد من الجدل والاختلاف.