في أوائل ثمانينات القرن الماضي وفي الأراضي المنخفضة لموزمبيق ظهرت تكنولوجيا جديدة للحرب اكتسحت أفريقيا وانتقلت سريعا الى بقية أنحاء العالم: الجندي الطفل. وأعد قادة التمرد ماكينة قتل بطول أربعة أقدام تقطع طريقها من قرية الى أخرى. وتعلم الموزمبيقيون أن الأطفال هم السلاح المثالي، حيث يسهل استغلالهم وهم يتميزون بالموالاة والجرأة والأكثر أهمية ان توفرهم لا نهاية له. وتقول جماعات حقوق الإنسان انه يوجد في الوقت الحالي 300 ألف من الجنود الأطفال في مختلف انحاء العالم. ويقول الخبراء ان المشكلة تتعمق ارتباطا بالتغيرات التي تجري على طبيعة النزاع نفسها، خصوصا في أفريقيا. ومن بلد الى آخر تحولت النزاعات من فكرة أو صراعات تحركها قضية الى ممارسة يقودها زعماء الحرب الذين يتمثل هدفهم الأساسي في النهب. وبسبب ان حركات التمرد الجديدة تلك تمولها الجريمة فان الدعم الشعبي يصبح أمرا لا صلة له بالموضوع. وأولئك الذين يسيطرون على هذه الحركات لا يهتمون بالقلوب والعقول. وهم ينظرون الى السكان المحليين باعتبارهم فريسة. والنتيجة هي ان عددا قليلا من البالغين يريدون الاستحواذ على كل شيء، ويصبح استغلال واختطاف الأطفال افضل سبيل لتعزيز جرائم السلب المنظمة. وهذه الآلية غذت بعض النزاعات المديدة في القارة، ويمكن رؤيتها في الشهر الحالي وحده في ما لا يقل عن ثلاثة بلدان. فخلال الشهر الماضي في الصومال قتل ما يزيد على ألف شخص في العاصمة مقديشو في حرب أهلية معقدة يخوضها زعماء حرب يقودون جيوشا من المراهقين. وتعدو الحرب الى عام 1991، عندما اسقطت الحكومة المركزية على يد العشائر التي كانت تخوض القتال بسبب مظالم معينة. ولكن سرعان ما تحول ذلك الى نزاع بين زعماء الحرب للسيطرة على المطارات والموانئ والوصول الى المساعدات الدولية. وبعد ستة عشر عاما ما زالوا يمارسون ذلك. وفي الكونغو تحولت الحرب الأهلية التي بدأت قبل عقد من الزمن للإطاحة بالطاغية موبوتو سيسي سيكو الذي يمسك بالسلطة منذ سنوات الحرب الباردة الى قتال متعدد الأطراف تشكل الحكومة طرفا واحدا منه حسب. أما بقية اللاعبين فهم المتمردين الذي يتقاتلون في ما بينهم من أجل الحصول على حصة من الخشب والنحاس والذهب والماس وموارد أخرى. وتعتمد كل الأطراف، وفقا لتقرير أصدرته الشهر الحالي منظمة «هيومان رايتس ووتش»، على الجنود الأطفال. وفي أوغندا استؤنفت الأسبوع الماضي آخر جولة من محادثات السلام، التي لم تحقق أية واحدة منها نجاحا حتى الآن، في محاولة لإنهاء حكم الإرهاب في المناطق الريفية من قبل جيش الرب. وتشكلت تلك الجماعة في أواخر التسعينات باسم أقلية أكولي المضطهدة، ولكنها سرعان ما تحولت الى عصابة تمتلك أسلحة وتجند أطفالا في الثالثة عشرة من العمر. وتمتلئ صفوفها بأطفال جرى غسل أدمغتهم للقيام بإحراق الأكواخ وقتل الأطفال حديثي الولادة. ولم تبتكر أفريقيا الجندي الحديث الصغير العمر. فقد حشد النازيون المراهقين عندما كانوا بحاجة الى ذلك. وفعلت ذلك ايران التي اعطت الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 الى 16 عاما مفاتيح بلاستيكية للدخول الى الجنة يعلقونها على رقابهم وهم يجتازون حقول الألغام خلال الحرب العراقية الإيرانية. وخاض المراهقون القتال في النزاعات القومية الدينية في كوسوفو والأراضي الفلسطينية وأفغانستان. ولكن هنا في أفريقيا اكتسبت الحركات المسلحة، التي تعتاش على أطفال يبلغ بعضهم التاسعة من العمر، سمة خاصة، غذتها عمليات انهيار سلطة الدولة أو الآيديولوجيا. والكثير من هذه الحركات ترتبط بالجشع والنفوذ والوحشية وليس هناك أي مسعى لتبرير ذلك. وقال اسماعيل بيه، الجندي الطفل السابق في سيراليون ومؤلف الكتاب الموسوم (طريق طويل: ذكريات جندي صبي) انه «قد يكون هناك شيء من الخطاب في البداية. لكن سرعان ما تضيع الآيديولوجيا. ويحول الأمر بالتالي الى مجرد اراقة دماء ووسيلة لمارسة الزعماء النهب وحرب جنون». وقال نيل بوثبي، البروفسور في جامعة كولومبيا الذي عمل مع الجنود الأطفال في مختلف أنحاء العالم ان هذه الحركات الجديدة تفتقر الى السمات المرتبطة بتمردات الماضي والمتمثلة في الزعيم الجذاب الذكي، واللغة المقنعة، وهدف الاستيلاء على المدن. ثمة سمة مشتركة بين زعماء التمرد اليوم تتمثل في انهم يريدون ادارة مشروعهم الاجرامي من داخل الأحراش. ويقول بوثبي ان هؤلاء لا يريدون ان يحكموا سياسيا وليست لديهم استراتجية لكسب الحرب. هذا الجانب يمثل تحولا كاملا عن توجهات وفلسفة حركات التحرر خلال عقدي السبعينات والثمانينات والنزاعات التي كانت هناك قضايا وراء نشوبها، مثل حركات التحرر في كل من زيمبابوي واريتريا. حتى عمليات الإبادة في رواندا عام 1994 جاءت كنزاع سياسي على السلطة بين مجموعتين. وفي كل هذه النزاعات كان الأطفال، الى حد كبير، ضحايا الفظائع التي ارتكبها الكبار، وليس العكس. يقول ويليام رينو، أستاذ العلوم السياسية والباحث في مجال الحركات المسلحة، ان الحروب التي دارت رحاها في القارة الأفريقية على مدى ال30 عام الماضية كانت في واقع الأمر حركات تحرر لتحرير الدول من نظام التمييز العنصري او الحكم الاستعماري. وأشار رينو الى ان هذه الحركات تلقت مساعدات سوفيتية او أمريكية وان العناصر التي حالفها النجاح في نهاية الأمر هم المتعلمون المؤيدون لفكر محدد. وحول هؤلاء يقول رينو ان خططهم ربما كانت حالمة، ولكن كان لديهم خطط على الأقل، على حد تعبيره. ويقول تشيستر كروكر، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون القارة خلال رئاسة رونالد ريغان، ان القارة الافريقية شهدت خلال عقد الثمانينات هذا النوع من الحروب، وأضاف قائلا ان القادة خلال هذه النزاعات كانوا يظهرون تبني أفكار محددة بغرض الترويج لمشاريعهم وكسب التأييد. وأضاف قائلا انهم كانوا يتعاملون مع هؤلاء ببعض الشك والتحفظ. انتهى ذلك الفصل بانتهاء الحرب الباردة. إذ ان الدول الضعيفة التي كانت تتلقى باستمرار معونات ومساعدات عسكرية خارجية انهارت بسرعة. كما بات على دول الكتلة الشرقية التي كانت تنتج الكلاشنيكوف للجيش السوفياتي البحث عن أسواق جديدة لمنتجاتها، لتصبح القارة الأفريقية سوقا مزدهرة لمثل هذا النوع من المنتجات خصوصا في ظل المجال الجوي المفتوح للكثير من دولها، فضلا عن شواطئها الممتدة ومناجم الذهب والماس. أما النتيجة، كما يقول رينو، فقد كانت افقا سياسيا مفتوحا أمام المسلحين بصورة جيدة الذين لم تعد لوائح الدولة وأمنها أو المبادئ الأخلاقية تقف حائلا أمام تحقيق أهدافهم. وعندما لم تعد هناك حواجز كبيرة، كما يقول رينو، بدأت تظهر كل هذه الأشياء غير العادية، مثل تجنيد القاصرين، الذين غالبا ما يتم اجتذابهم لهذه الحركات المسلحة بواسطة الخرافات والسحر. يلقَن الأطفال في الكثير من هذه الحركات مبادئ مثل «ان الحياة والموت يعتمدان على الأرواح» يضعها القادة العسكريون في التعاويذ والأحجبة. السحر يدفع هؤلاء الاطفال الى فعل أشياء لا تخطر على بال، كما يستغله القادة في إضفاء مهابة واحترام غير عادي. ويقول بيه ان القادة العسكريين يرتدون أحجبة وتعاويذ يقولون انها تجعل الرصاص لا يخترق أجسادهم، وكان الأطفال يصدقونهم. كان جيش حركة رينامو (المقاومة الوطنية الزيمبابوية) المتمردة، التي كانت تدعمها جنوب أفريقيا، ضمن أول الحركات المسلحة التي لجأت الى استخدام السحر وأشاعت مفهوم العلاج عن طريق الساحرات. وفي الكونغو استخدمت الحركات المسلحة حتى نهاية عقد التسعينات هذه الأساليب وأصدرت تعليماتها الى بعض الجنود القاصرين ان أكل ضحاياهم سيجعلهم اكثر قوة. بدأ العالم يتنبه الى هذه القضية في ذلك الوقت، وأدرجت مسألة الجنود القاصرين في أجندة الأممالمتحدة وأجيزت بروتوكولات تنص على جعل سن التجنيد 18 عاما (الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة كانتا من بين الدول التي رفضت التوقيع على هذه الاتفاقيات).