سبب بسيط يكمن وراء عدم انتهاء عدد من أكثر الحروب دموية ووحشية فى أفريقيا، وهو أنها ليست حروباً بالمعنى التقليدى للكلمة. فالمحاربون يفتقدون أيديولوجية واضحة تحكمهم، كما أنهم يفتقدون الأهداف المحددة. فهم لا يطمحون للاستيلاء على العواصم أو المدن الكبرى، بل إنهم يفضلون فى واقع الأمر مناطق الأدغال الموحشة حيث يسهل عليهم ارتكاب الكثير من الجرائم. ويبدو أن متمردى اليوم غير مهتمين بانضمام عدد أكبر من المنشقين، حيث إنهم يرضون فقط بسرقة الأطفال أو الإمساك بسلاح كلاشينكوف، واستخدامه فى جرائم القتل. فالشكل الكلاسيكى لحركات التحرير الأفريقية اندثر، وحلت محله أشكال أخرى أكثر وحشية وفوضوية وعنفاً، كما أنها أكثر صعوبة فى احتوائها. ويطرح جيفرى جيتلمان تجربته كرئيس لمكتب شرق أفريقيا بصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، حيث قام بتغطية أخبار 12 بلداً أفريقياً، لكنه أوضح أن معظم وقته قد استهلك فى متابعة تلك «اللاحروب»، كما يطلق عليها. ويقول جيتلمان إنه شهد عن قرب تغير شكل الحرب فى القارة من حرب «جندى ضد جندى» - وهى القلة القليلة - إلى «جندى ضد مدنى»، فمعظم المقاتلين الأفارقة اليوم ليسوا متمردين يسعون وراء قضية ما بل إنهم كالوحوش المفترسة. واستشهد ب«فظائع مذهلة مثل جريمة الاغتصاب التى أصبحت كالوباء فى شرق الكونغو»، وتساءل الكاتب عن الهدف العسكرى أو السياسى من وراء ارتكاب مثل تلك الجريمة، معتبراً أن «الإرهاب أصبح الغاية، وليس مجرد وسيلة». ويؤكد جيتلمان أن هذه الأوضاع تتكرر فى معظم أنحاء أفريقيا، حيث ما يقرب من نصف دول القارة- البالغ عددها 53 دولة- ترزح تحت وطأة النزاعات أو أنها انتهت لتوها منه. فبالنظر إلى الخسائر البشرية فى ال12 بلداً فقط التى كان يغطى أخبارها، يقع عشرات الآلاف من القتلى المدنيين كل عام. المتمردون فى الماضى كانوا يقاتلون ضد الاستعمار أو الاستبداد أو نظام الفصل العنصرى. فحركات التمرد الناجحة كان وراءها زعيم ذكى ذو لغة مقنعة، من أمثال جون قرنق الذى قاد التمرد فى جنوب السودان مع الجيش الشعبى لتحرير السودان. فهو نجح فى تحقيق ما حصل عليه القليل من زعماء التمرد فى العالم: وهو فوز مناصريه ببلادهم. ويمكن إرجاع بعض الفضل لمثابرته، فى رغبة جنوب السودان فى إجراء استفتاء العام المقبل على الانفصال عن الشمال، بحسب قوله. وتوفى قرنق فى حادث تحطم مروحية عام 2005، ولكن الناس لايزالون يتحدثون عنه وكأنه شىء مقدس. بين قادة التمرد فى الماضى، ومحاربى الحاضر، لا شىء مشترك. فالذى تغير فى هذا الجيل كان فى جزء منه العالم ذاته، فانتهاء الحرب الباردة خلف حالة من الانهيار والفوضى، ووجدت القوى الكبرى أحجار الدومينو التى تحتاج إلى أن تحتمى من السقوط، وفجأة تبين لها أنه لا شىء يسمى «المصلحة الوطنية»، وفجأة، أصبح كل ما يلزمك كى تكون قوياً هو السلاح. ففى الكونغو، كان هناك عشرات من أمثال هؤلاء الرجال منذ عام 1996، فعندما حمل المتمردون السلاح ضد الديكتاتور موبوتو سيسى سيكو، الذى يعد الرجل الأكثر فساداً فى تاريخ هذه القارة التى يعتبرها جيتلمان «الأكثر فساداً» أيضاً، وبعدما انهارت دولة موبوتو، لم يُعد أحد بناءها فعلياً. ففى خضم الفوضى التى تزايدت، استولى قادة التمرد على أراضى غنية بالذهب والماس والنحاس والقصدير، ومعادن أخرى. وكان من بينهم لوران نكوندا، بوسكو نتاجاندا، زتوماس لوبانجا، الذين يمثلون خليطاًً ساماً من قادة «الماى ماي»، ومرتكبى الإبادة الجماعية فى رواندا، ومجموعة قاسية تسمى «الراستا». ويقول جويتلمان إن الكونغو أصبحت اليوم موطناً لحركة تمرد تنتهز المشاعر المناهضة للحكومة كذريعة لسرقة الممتلكات العامة. ويعد الجنود الأطفال جزءاً لا يتجزأ من هذه الحركات. وبما أن هذا النمط من الحروب الأفريقية يتم تمويله من الجرائم، فلا علاقة لها بالدعم الشعبى، وهو يعنى أن الأطفال هم الأسلحة المثالية، حيث إنه يسهل التأثير عليهم فكريا، ويمكن ضمان ولائهم وجرأتهم، والأهم من ذلك، أنهم يعدون «إمداداً لا ينقطع». وفى هذا العصر الجديد من الحروب الأبدية، تمثل الصومال صورة لأكثر الدول الافريقية فوضوية، فهى تبدو ممزقة بفعل صراع دينى تحت ستار مدنى بين الحكومة الانتقالية الضعيفة المدعومة دولياً، وميليشيا «الشباب» الإسلامية. ومع ذلك فإن القتال ينجم عن نفس المشكلة الصومالية القديمة التى أعاقت هذا البلد الفقير منذ عام 1991: وهى أمراء الحرب. فكثير من الرجال الذين يتولون قيادة أو تمويل الميليشيات فى الصومال، هم أنفسهم من ساهم فى تفتيت المنطقة على مدى السنوات ال20 الماضية، فى صراع على الموارد القليلة المتبقية، كالميناء والمطار وأعمدة الهاتف والمراعى. وعلى الرغم من أن الشعب ضاق ذرعاً بميليشيا الشباب وأحكامهم القاسية، فإن ما يمنعهم من الثورة هو ثقافة «التربح من الحرب» المتأصلة فى الصومال، فيما ترك المجتمع الدولى المشكلة الصومالية تتفاقم لسنوات دون الدفع باتجاه حكومة دائمة. والآن فإن العديد من الصوماليين لديهم مصلحة قوية فى استمرار الوضع القائم. حيث قال أحد مصدرى زيت الزيتون فى مقديشو لجويتلمان إنه وبعض أصدقائه اشتروا عدداً من الصواريخ لإطلاق النار على جنود الحكومة لأن «الضرائب مزعجة». السؤال المخيف، هو كم عدد الدول المضطربة مثل الكونغو التى تظهر أعراضاً شبيهة بالصومال؟. فكلما كانت هناك إمكانية لوجود زعيم يهدف لإعادة فرض النظام فى مقديشو، تظهر الشبكات الإجرامية لتمول خصمه، بغض النظر عمن يكون. ولا يمكن أن نعمم ببساطة هذا النموذج على كل مناطق الصراع فى أفريقيا، فالانقلابات العسكرية لاتزال نوعاً شائعاً من الاضطراب السياسى، كما هو الحال فى غينيا عام 2008، والتى أعقبتها بفترة قصيرة مدغشقر. كما أن هناك عدداً قليلاً من المتمردين «غير السفاحين» الذين تبدو لهم دوافع مشروعة، مثل بعض قادة دارفور فى السودان. ولكن على الرغم من أن مظالمهم السياسية واضحة المعالم تماما، فإن المنظمات التى يقودونها قد تكون ليست كذلك. وهكذا، تبدو الصراعات فى أفريقيا وكأنها حروب تدور فى دوائر مفرغة، مع عدم وجود بصيص من الأمل لوضع حد لها.