ألهمت الثورة المصرية، ولا تزال، كثيراً من الأدباء والفنانين والباحثين والكتاب الكثير من الوقائع والمعارف والقيم والمعاني والصور، فراح كل منهم يتعامل معها بالطريقة التي يألفها، فأبدع بعضهم شعراً وسرداً، ورسم آخرون لوحات بديعة وصدح مطربون بأغانٍ وطنية مؤثرة، وكتب البعض انطباعات سريعة، وهناك من سجل يوميات الميادين الغاضبة في التحرير وإخوته، من خلال معايشته التامة للأحداث التي تدفقت بلا هوادة. وكتبت على متن الثورة وهامشها دراسات سريعة، ومقالات مطولة أو قصيرة، بعضها باللغة العربية، وأخرى كتبها باحثون أجانب، محاولين جميعاً أن يفسروا ما جرى، لا سيما أنه كان مفاجئاً لكثيرين منهم، وإن كانت إرهاصاته قد حضرت أيام "التخمر الثوري"، لكن قلة هي التي فطنت إلى أن الثورة آتية لا ريب فيها. وقد سلك المفكر وعالم الاجتماع السياسي الأستاذ السيد يسين طريقاً مختلفاً في تحليل أحداث ثورة يناير، فلم ينتظر ليرى اكتمال الحدث، الذي لا يزال ناقصاً، وربما خشي من أن تتسرب الوقائع الطازجة المتدفقة بلا هوادة من بين أصابعه، وتتراكم الأخبار وتتشابك وتتشظى وتتناحر بما يجعل استردادها فيما بعد، من أجل سبر أغوارها وتجاوز العابر والعادي والفرعي فيها إلى المقيم والمغاير والأصيل، عملاً غاية في الصعوبة، لا يمكن لباحث واحد، مهما كان مثابراً وإحاطياً ونابهاً وذا خبرة، أن يمسك بتلابيب كل شيء فيه، ليفكك هذا الفعل الاجتماعي والسياسي بل والإنساني المركب، الذي انطلق في يناير 2011، ولا تزال فصوله وموجاته تتوالى. لكل هذا يبدأ الأستاذ يسين كتابه الذي وسمه ب"25 يناير: الشعب على منصة التاريخ" بجملة قصيرة دالة على الغلاف تقول: "تنظير مباشر لأحداث الثورة"، يفصلها في أول عبارة بالكتاب حيث يقول: "نحن نعيش لحظة تاريخية فريدة، تتمثل في ملاحظة وقائع ثورة 25 يناير لحظة وقوعها، ونتتبع تشكلها وتطورها من يوم لآخر، مما يدل على أن الفعل الثوري الذي بدأ في يناير 2011، لم يكتمل بعد،" متلمساً في كل ما ورد بين دفتي كتابه الذي يربو على ستمائة صفحة من القطع فوق المتوسط، خطى ما قاله أريك هوبزباوم في مقدمة كتابه "عصر الثورة" بوعي وحكمة واقتدار: "تنطوي الكلمات في أغلب الأحيان على شهادات أعلى وقعاً من الوثائق"، وهو الكتاب الذي قدم فيه نظرية متكاملة عن أشكال التمرد وحالاته. ومن هذا المنطلق يحاول السيد يسين أن يرسم، وهو يراقب المشهد الثوري من بعيد، ملامح ما جرى، ويجعل من كلماته بعض وثائق لهذا الحدث الهائل، الذي لا يزال الغموض يكتنف بعض جوانبه، على رغم عشرات الأطنان من الورق التي كتبت عنه، ولا تزال الأقلام تكتب المزيد. وهنا يقول المؤلف: "كتابنا ليس دراسة تحليلية باردة تمت بعد اكتمال الثورة، مطبقة المناهج التقليدية في العلوم الاجتماعية، وإنما هو دراسات لحظية متتابعة، حاولت منذ ثورة 25 يناير عبر مقالات أسبوعية في جريدة الأهرام تتبع وملاحقة وتحليل أحداث الثورة في تعاقبها السريع. ومن هنا كان لابد لي كباحث في العلم الاجتماعي أن أصوغ إطاراً نظرياً يسمح لي بتغطية كل أبعاد الثورة من ناحية، وابتداع منهج يتناسب مع الحدث الثوري، وهو ما أطلق عليه: "التنظير المباشر لأحداث الثورة". ينبئنا المؤلف إذن بأنه وضع تصوراً نظرياً في رأسه بعيد اندلاع الثورة، أو خطة على الورق، كهيكل فارغ، ثم راح يملؤه مع مرور الوقت بمقالات متتابعة، تنتقل من الوصف والتحليل إلى التأمل والتنبؤ، قسمها إلى خمسة أقسام رئيسة هي: موجات الثورة المتدفقة، وعثرات في مسار الثورة، ورؤى استراتيجية، وأصداء الثورة، وأوراق من مسيرة الوطن. والقسم الأخير يمزج فيه بين الخاص والعام، أو بين الذاتي والموضوعي، ليسرد سيرته الذاتية متواشجة أو متعانقة مع مسيرة الوطن، ابتداء من يوليو 1952 إلى يناير 2011 وفيها من حكمة التاريخ، ورؤية عالم الاجتماع، ما يفيد في فهم ما يجري حالياً، وُيلهم في توقع ما سيأتي لاحقاً. ويكمل هذا الكتاب تحليلات مؤلفه، وهو صاحب عشرات الكتب في الاجتماع والسياسة والقانون والنقد الأدبي، عن ثورة يناير التي بدأت في كتاب صدر له قبل عامين بعنوان "ثورة 25 يناير بين التحول الديمقراطي والثورة الشاملة" محاولاً فيه أن يجد جسراً متيناً واصلاً بين النقاش الذي كان سائداً قبل اندلاع الثورة عن ضرورة الإصلاح والانتقال إلى الديمقراطية وبين الواقع الذي فرضه التغيير الجائح الذي أسقط نظام مبارك، من دون أن يقيم، حتى الآن، النظام الذي يحلم به الثوار. إن ميزة كتاب "الشعب على منصة التاريخ" أنه لا يكتفي بتسجيل يوميات الثورة، مثلما فعل البعض، ولكنه يحللها ويضيء بعض العتمة الراقدة في جنبات الأحداث اللاهثة، ويعالجها برؤية إحاطية، لا تقتصر على تتبع ما يجري في "ميدان التحرير" وأمثاله من ميادين مصر، بل ما يدور حولها، في داخل مصر وخارجها، ويضغط بلا هوادة على أعصاب الثوار، حتى لو كان بعضهم في غمرة الحماس لا ينظر إلا إلى تحت قدميه المغروستين بعيداً في تراب مصر. وفي ظني أن السيد يسين، لما له من خبرة بحثية وعلمية طويلة، قد يعكف فيما بعد، على وضع تصور عام، أو رؤية أكثر عمقاً، وربما نظرية متكاملة، للثورة المصرية، ولن يبذل جهداً كبيراً، لكن عليه فقط أن يمعن النظر في تحليله اليومي للأحداث، الذي ورد في كتابه هذا، لتتضح أمام عينيه رحلة الثورة من الانفجار إلى السكون، ثم الانفجار المتجدد، وما بينهما من هزات متتابعة تغيرت بها الثقافة السياسية للمصريين المعاصرين، وسقط الصمت إلى الأبد. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية