في كتابه الشهير' فن الحرب' يقول المؤلف الصيني سوين تسي:' إذا كان خصمك يفوقك قوة فلا تحاول الاشتباك معه لأنه سيهزمك ويجب العمل علي استنزاف تلك القوة وإصابته بالتعب والإرهاق', ويقول في موضع آخر:' إذا كان العدو متغطرسا فعليك أن تفعل كل شيء لكي تزيد من إحساسه بالغرور ثم تنتهز الفرصة لكي تنقض عليه وتفقده توازنه في الوقت المناسب'. النصيحتان تنطبقان بالحرف الواحد علي الانتخابات الرئاسية الأمريكية لو استمر الحال علي ما هو عليه من صراع هاديء نسبيا في الحزب الجمهوري لاختيار مرشحه للرئاسة, وما يقابله من حرب' تكسير العظام' بين ثلاثة علي الأقل من المرشحين المتكافئين في الحزب الديمقراطي: باراك أوباما, وهيلاري كلينتون, وجون إدواردز. وليس من المستبعد لما تشهده الحملات الانتخابية الأمريكية عادة من قدرات عالية في التخطيط والتحركات الخداعية والتركيز علي العامل النفسي لدي الناخبين أن يكون الحزب الجمهوري قد استخدم من الذكاء والدهاء ما يمكنه من تطبيق هذه النصيحة التاريخية في صراعه الانتخابي الحالي مع الديمقراطيين استعدادا للانتخابات الرئاسية التي ستجري العام الحالي. ف قبل انطلاق الجولة الأولي من الانتخابات التمهيدية في ولاية أيوا الصغيرة, كان واضحا أن جميع استطلاعات الرأي ترجح فوز المرشح الديمقراطي بالرئاسة في النهاية ولهذا كان التركيز الإعلامي شديدا ومكثفا للغاية علي الصراع الديمقراطي مع شيء من عدم الاكتراث بانتخابات الحزب الجمهوري ومناخ الثقة داخل الحزب الديمقراطي واضح للعيان ويكاد يشير إلي أن الفائز من هذا السباق الداخلي هو الذي سيجلس في البيت الأبيض مع بداية عام2009 لا محالة وأن انتخابات نوفمبر الرئاسية لن تكون بهذا القدر من الصعوبة والتقارب الذي كانت عليه الانتخابات قبل الماضية التي جاءت بجورج بوش للمرة الأولي عام2000. هذه المشاعر الواثقة والصراع المتقارب جدا بين أوباما وهيلاري ومن بعدهما إدواردز التي بدأت تأخذ شكل ما يسميه الأمريكيون ب'إطلاق النار' أي الاتهامات الشخصية المتبادلة والمواجهة المباشرة, قابلها علي الجانب الآخر صراع ساخن في المعسكر الجمهوري ولكن لوحظ تركيز كل المرشحين علي قضية واحدة وهي : كيفية تقديم المرشح الأبرز والأقوي بالفعل عن الحزب في الانتخابات المقبلة, وانتهاز فرصة انشغال وسائل الإعلام بالصراع الدائر في الحزب المنافس, في تقوية الصفوف والاتفاق علي مرشح واحد, في حالة ظهور تفوق واضح لمرشح محدد بعد الجولات التمهيدية للانتخابات الجمهورية الجارية حاليا. وقد يأتي الانقضاض' الجمهوري' علي' الغرور' الديمقراطي في المرحلة الأخيرة, بعد أن يكون كل من هيلاري وأوباما قد استنفدا مجهودهما وأموالهما وطاقاتهما في الصراع الانتخابي الداخلي بينهما, وبعد أن يكون الجمهوريون قد وحدوا صفوفهم علي قلب مرشح واحد, حتي وإن لم تكن فرصته أفضل من الناحية النظرية من فرصة المرشح الديمقراطي. هذا السيناريو قد يحدث, وهذه الاستراتيجية الجمهورية لا ريب أنها هي الوحيدة التي يمكن أن تصلح في حالة كهذه, خاصة بعد أن كانت مختلف التوقعات تشير إلي أن الرئيس الحالي' الجمهوري' جورج بوش قوض تماما من فرصة حزبه في الاحتفاظ بمنصب الرئاسة لفترة ثالثة وبمرشح جديد بفضل سياساته الخاطئة وعلي رأسها أخطاؤه في حرب العراق والحرب ضد الإرهاب بصفة عامة. والمتابع الجيد لما يجري علي الساحة الانتخابية الأمريكية يلاحظ أن الجمهوريين يطبقون استراتيجية الدهاء والانقضاض علي الخصم بحذافيرها, فتركيز المرشحين الحاليين علي قضايا السياسة الخارجية ووضعها علي رأس جدول أعمال مناظراتهم وحملاتهم وتجمعاتهم الانتخابية, يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنهم يحاولون استغلال الوقت الذي ينشغل فيه الجميع بصراع' الحمير' والحمار هو شعار الحزب الديمقراطي بتقوية وعلاج أبرز نقاط الضعف التي ارتكبها' أفيال' بوش علي مدي ولايتين رئاسيتين, و'الفيل' هو شعار الحزب الجمهوري. ويحرص الجمهوريون حتي الآن علي مواصلة الارتكاز علي نقطة قوتهم البارزة وهي القاعدة الجماهيرية التي ما زال يتمتع بها الحزب بين أنصار اليمين المحافظ والمتدينين الأمريكيين الذين كان يعبر عنهم بوش أصدق تعبير, والدليل علي ذلك أن مايك هاكابي الفائز بجولة أيوا التمهيدية الأولي هو قس سابق, وهو الحاكم السابق لولاية أركانسو, وكان حريصا في حملاته الانتخابية علي انتقاد منافسه رجل الأعمال ميت رومني, ولكن دون تدميره, كما حدث بين أوباما وهيلاري, وعندما فاز هاكابي في أيوا, قال إن' الأمريكيين أكثر أهمية من محفظة النقود', وهي جملة تلهب حماس وتعاطف كثير من الأمريكيين, وليس الجمهوريين وحدهم, ثم جاء فوز ماكين في نيوهامشاير ليوضح أنه ليس صحيحا أن الجمهوريين ليس لديهم مرشح قوي, بل لديهم ماكين أيضا بجانب هاكابي, وماكين هو الأقوي بحكم مواقفه المعارضة الشديدة لأخطاء بوش في حرب العراق, ويعتقد أنه سيعتلي قائمة المرشحين الجمهوريين لاحقا في الولايات الأكثر تأثيرا. وعندما تحدث المرشحون الجمهوريون عن حرب العراق, اتفقوا جميعا علي ضرورة هذه الحرب, وهو اتجاه قائم بقوة حتي الآن لدي الأمريكيين, ولكنهم اتفقوا أيضا علي أن إدارة بوش' أخطأت' في المراحل الأولي بهذه الحرب, ثم عادت لتصحح بعض أخطائها! هاكابي مثلا تنصل كثيرا من تأييده السابق لحرب العراق إبان ولاية بوش, واتهم إدارة بوش بأنها كانت' وقحة' فيما يتعلق بحرب العراق, وبأنها تجاهلت الآخرين في هذا العالم, كما انتقد وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد وقال إن يديه ملطختان بالدماء, وهو نفس ما أكده منافسهما القوي أيضا جون ماكين, ولكنهما اتفقا في ضرورة بقاء القوات الأمريكية في العراق, بل إن ميت رومني أكد تأييده الكامل لسياسات بوش في هذه الحرب ويعتبر أنه يجب أن يكون الأمريكيون ممتنين له, ولعل هذا هو ما أدي إلي تراجعه في نيوهامشاير! إذن, فالمرشحون الجمهوريون يتنصلون من أخطاء بوش التي أضعفت فرص حزبهم في الفوز بالرئاسة, ولكنهم في الوقت نفسه لم يتخلوا عن أبرز نقاط قوتهم, وهي أيديولوجية الجناح الرئيسي المسيطر علي الحزب في الوقت الحاضر, وهي الذهاب إلي الإرهاب لمحاربته, بدلا من انتظاره في الداخل, وهو توجه ما زال يحظي بتأييد قطاع كبير من الأمريكيين ممن يبحثون عن الأمن ولا يريدون تكرار هجمات سبتمبر2001. .. وبعد كل ما تقدم.. هل يمكن أن نتذكر مرة أخري مقولة' سوين تسي' التاريخية بعد أن تجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل وتنتهي بمفاجأة؟!