بمرور عامين علي25 يناير هذا الحدث الفذ الذي جعل الشعب يقف علي منصة التاريخ , انتهت الموجة الطويلة للثورة بكل آمالها ووعودها وإحباطاتها وخيبة أمل الشعب في تحقيق أهدافها, لننتقل إلي زمن الموجات القصيرة المتدفقة للعنف والعنف المتبادل. حيث أصبح الكل في مواجهة الكل, دون تمييز بين الأنصار والخصوم, حتي انعدمت الفروق بين الجاني والمجني عليه, وغامت الصورة بحيث أصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين القاتل والمقتول, أو بين الثائر والبلطجي! سحابة شيطانية من العنف الدموي أصبحت تبسط رواقها علي المجتمع بعد فترة بالغة القصر لم تزد علي ثلاثة أسابيع بعد اندلاع الثورة, حلمنا فيها بتأسيس يوتوبيا( مدينة فاضلة) تسودها أرفع القيم الإنسانية التي سينهض عليها المجتمع بعد الثورة لتحقيق أهدافها السامية, في العيش الكريم والحرية الكاملة والعدالة الاجتماعية. لقد تابعت علي مدي عامين كاملين ابتداء من25 يناير تحولات الثورة في صعودها وهبوطها من خلال مقالاتي الأسبوعية كل خميس, وأحسست بعد آخر مقالة نشرت بتاريخ28 فبراير2013 بعنوان الغيبوبة السياسية والهستيريا الثورية! أنني قد انتهيت من تنظيري المباشر لأحداث الثورة وفق منهج النقد الاجتماعي المسئول, الذي لا يكتفي بالإشارة إلي الأخطاء والسلبيات ولكن يعطيها أكثر من ذلك- التكييف الصحيح. وهكذا لم أتردد منذ شهور طويلة في التحذير من الفروق بين الثورة والفوضي, وتحول المظاهرات السلمية إلي دموية, وانتهازية النخبة السياسية وغوغائية الشارع. وقررت أن أجمع هذه المقالات جميعا في كتاب سيصدر قريبا عنوانه الشعب يقف فوق منصة التاريخ. وليس ذلك إعلانا عن توقفي عن متابعة الثورة, ولكنني أحسست أنني قلت ما عندي في التقييم النقدي لها, وآن الأوان لكي أنتقل إلي التأصيل النظري الضروري لشعارات الثورة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية, وهي مهمة لم يتقدم أحد لكي يواجهها, وخصوصا فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية أهم شعارات الثورة وأصعبها جميعا في التأصيل النظري والتطبيق الفعلي, في إطار التنمية المستدامة التي لا يمكن أن تتحقق إلا وفق رؤية استراتيجية بصيرة, وهي رؤية غائبة حتي الآن. اطلعت علي كتاب بالغ الأهمية نشره المركز القومي للترجمة, للكاتب مايك ديفيز عنوانه كوكب العشوائيات, وقد قام بترجمته مترجم قدير وكاتب نقدي لم أكن قد قرأت له شيئا من قبل, هو الأستاذ ربيع وهبة. ولم يقنع الأستاذ وهبة بالترجمة الدقيقة لهذا الكتاب النادر الذي يدرس ظاهرة العشوائيات بطريقة مقارنة متعمقة علي مستوي العالم, ولكنه كتب مقدمة للكتاب تقع في نحو خمس وعشرين صفحة تتضمن تحليلا نقديا فذا لأحوال المجتمع المصري قبل وبعد ثورة25 يناير. ما الذي جعلني أهتم اهتماما شديدا بمقدمة ربيع وهبة؟ السبب أنني تابعت كغيري من الباحثين- تنامي ظاهرة العنف في المجتمع المصري بصورة غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث المعاصر. وخلصت بيني وبين نفسي إلي نتيجة مؤداها أننا انتقلنا من مشكلة العشوائيات كنمط حضري يمثل خطورة بالغة علي أمن المواطنين الذين اصطلح علي تسميتهم بالهامشيين, إلي العشوائية كسلوك سياسي واجتماعي. وهذه العشوائية لا يمارسها فقط من نطلق عليهم البلطجية بل إنها وهنا الخطورة- أصبح المواطنون العاديون يمارسونها في أفعال العنف والانتقام التي أصبحت من الظواهر السائدة الآن في مجتمعنا. وقد استطاع ربيع وهبة بتطبيق منهج تاريخي نقدي أن يبرز أسباب ظهور مشكلة العشوائيات واستمرارها والجهود الفاشلة للحكومات المستبدة في احتوائها, ليس عن طريق حلها بصورة جذرية ولكن من خلال سياسات تهدف إلي الخلاص من الفقراء أنفسهم! وهو يوفق توفيقا كاملا في وصف الانقسام الطبقي العمراني بين منتجعات مسورة وبين عشوائيات ضائعة, وذلك في ضوء إشارات للظاهرة في عواصم عالمية متعددة. وأريد الآن أن أربط بين ظاهرة العشوائيات وتنامي ما أطلق عليه علي سبيل الاستعارة- ظاهرة العشوائية في المجتمع المصري الآن, كنمط سلوكي وممارسة اجتماعية, تظهر أساسا في أفعال العنف وردود الفعل لأعمال البلطجة وقطع الطرق والتخريب من ناحية, والمواجهات الدموية بين الشرطة والمتظاهرين من ناحية أخري.. وقد لفت نظري بشدة في موضوع نشر علي الموقع الإلكتروني بوابة نيوز التي يرأس تحريرها الأستاذ عبد الرحيم علي موضوعا بعنوان البلطجة في عصر النهضة سرد مخيف لأحداث متعددة, تكشف عن أن المصريين فقدوا الثقة في القانون فقرروا أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم! يسجل الموضوع في فقرة بعنوان سجل قانون الغاب في دفتر أحوال المصريين عددا من الأحداث الممثلة للظاهرة. في11 أغسطس بكفر الشيخ إتجه أكثر من200 شخص من الأهالي صوب منزل أحد البلطجية واقتحموه وأشعلوا فيه النار ثم أخرجوا منه البلطجي, وانهالوا عليه بالضرب بالآلات الحادة ثم قاموا بقطع يديه وقدمه اليميني, وطافوا به مدينة دسوق ثم فصلوا رأسه عن جسده, وتركوه أمام مركز الشرطة. وفي بنها في2 ديسمبر2011 تخلص أهالي قرية بقيرة من أربعة بلطجية اعتادوا التعدي علي أهل المنطقة وتضامن الأهالي مع الشرطة التي طاردت البلطجية ساعات طويلة ونجحوا في الإمساك بهم, وانهالوا عليهم بالشوم والعصي حتي لفظوا أنفاسهم الأخيرة. وفي الشرقية في11 فبراير2012 قام أهالي عزبة الثمانين بالقبض علي بلطجيين قتلا شابا بالرصاص وقاموا بربطهما بأعمدة الإنارة بميدان عرابي بالقرية وشنقهما حتي يكونا عبرة! وإذا تحولنا إلي أحداث العنف المتبادلة بين الشرطة والمتظاهرين الذين يهاجمون أقسام الشرطة والمنشآت العامة, لوجدنا نقدا غير منصف للتعامل الأمني مع الذين يستعملون الطوب وقنابل المولوتوف, وكأن المطلوب هو فتح الطريق أمامهم للتخريب وهدم المنشآت! وهناك العديد من الأحداث المشابهة لهذه المواجهات الفوضوية التي لا علاقة لها بالثورة, مما يجعلنا نتساءل ماذا حدث للشخصية المصرية بعد الثورة, وما هو تفسير هذا السلوك الفوضوي؟ يبدو أنه تماما مثلما حدث لميدان التحرير الذي كان أيقونة عالمية أيام ثورة25 يناير المجيدة, ونموذجا رفيعا لأرقي القيم الإنسانية في الوطنية والمحبة والتسامح, وأصبح الآن مباءة تعد سبة في جبين القاهرة, فإن يوتوبيا الثورة- فيما يبدو قد ضاعت في أدغال غابة كوكب العشوائيات, حيث أصبح العنف هو لغة الحياة اليومية. يا للحسرة والآسف! نقلا عن صحيفة الاهرام