بدأت تسمية الثورات العربية تترنح بين الربيع والخريف، وهناك من رآها عاصفة شتاء مدمرة، ومع أني ممن يجدون أنها قد تشكل بداية حقبة جديدة في التاريخ العربي الذي انكفأ منذ نهاية الدور العباسي الثاني، إلا أنني أقدر رأي من يسميها خريفاً، بعد أن رأى تحولاتها المأساوية في مصر وتونس وليبيا واليمن، وبعد أن رأى حجم الدمار الذي حل بسوريا، وهو مستمر نحو هاوية تهدد مستقبل المنطقة كلها، ولكنها دورة الفصول على كل حال. ولن أبرر ما يحدث من فوضى بقول المؤرخين "إن من سنن التاريخ أن تأكل الثورات أبناءها"، ولابد للثورات العربية من أن تهدر وقتاً طويلاً قبل أن تستقر، فقد كان بوسع بلدان الثورات -عدا سوريا- أن تجد مستراحاً سريعاً فهي بالقياس لما يحدث في سوريا ثورات منجزة بأقل الخسائر، ويبدو مريعاً أن تكبر الخسائر بعد الإنجاز بسبب هذا الصراع المفتعل بين الأسلمة والعلمنة، وأراه مفتعلاً لأن الثورات لم ترفع شعار أسلمة ولا علمنة، وإنما رفعت الشعار (الهدف) الذي يفترض أنه يرضي الجميع، وهو الديمقراطية. وأجد من أخطر تحولات الثورات أن يجعل الثائرون صراعاتهم الإيديولوجية تطغى على رؤيتهم لحكم مدني ديمقراطي يقوم على مبادئ الحرية والمواطنة والحقوق والواجبات عبر سيادة القانون وحده، وهو المستمد من الدستور، بوصفه الوثيقة الوطنية الكبرى التي يجب أن تلقى إجماعاً، وهذا ما كان يدعوني للتعاطف مع من يطالبون بتعديل الدستور في مصر، لأنهم يشكلون نسبة ضخمة من الشعب، لا يجوز إهمال رأيها، وكنت أتمنى لو أن الأحزاب الدينية بقيت على وفائها لما وعدت به من عدم المنافسة على الحكم، والاكتفاء بالمشاركة البرلمانية كي لا يزج الإسلام في فوضى ما بعد الثورات، وتتكرر تجربة ما بعد سقوط الدولة العثمانية، حين بدا الصراع على أشده بين دعاة الجامعة الإسلامية ودعاة الجامعة العربية، وقد انتصر القوميون في تركيا، وفي بعض البلدان العربية فاستبعدوا الإسلام، وبالغ الأتراك القوميون العلمانيون فحاربوا الدين تحت شعار العلمانية. وفي التجارب الراهنة في تونس ومصر يبدو الإصرار على تلوين الحياة السياسية بصبغة إسلامية خالصة، وكأنه محاولة لاستعادة تجربة التاريخ، وهذا أمر غير ممكن، وهو ما يجعل كثيراً من المسلمين العاديين الذين يريدون أن يزاوجوا بين الإسلام وبين ثقافات العصر يرفضون هذا التوجه. إنهم يريدون أن ينغمسوا في الفضاءات الفكرية الواسعة التي يتيحها العصر دون التخلي عن دينهم، ولكنهم يرفضون أن يجبرهم أحد على ارتداء عباءة الدين التاريخية، أو أن تفرض عليهم أحكام قابلة للاجتهاد والتأويل صدرت في عصور سابقة. وهم يلتزمون بالثوابت من النصوص التي لا تقبل الاجتهاد ولاسيما في قضايا العقيدة والعبادات. والفهم العميق للإسلام يلبي هذه المطالب لأنه دين يضمن حرية الاعتقاد وحرية التعبير، ويضمن حق الاختلاف واحترام حقوق الآخر، وكان بوسع الدعاة أن يستمروا في شغلهم على ترسيخ قيم الإسلام في النفوس دون أن يتحولوا إلى سياسيين وإداريين ينتظر منهم الناس تلبية احتياجات معيشية لا يقدرون على أدائها. وأعتقد أن ما تحتاج إليه شعوب الثورات العربية هو أحزاب برامج تنموية وليس أحزاب عقائد وإيديولوجيات، فلم تقم الثورات من أجل الإيديولوجيا، وإنما قامت بسبب سياسات الاستبداد والظلم الاجتماعي ومركزية السلطة وعدم قابليتها للتداول، وغياب البرامج التنموية التي تضمن عدالة توزيع الثروة والدخل القومي، وفشل الحكام المخلوعين في تحقيق أي تقدم تنموي يؤدي إلى تحسين مستوى حياة المجتمع. ومن المفارقات أن الدول التي قامت فيها الثورات كانت تعلن نفسها دولاً تقدمية وتصف دولاً عربية أخرى بأنها دول رجعية "متخلفة"، وكان الشعب المقهور في دول التقدم يعاني السقوط اليومي في التخلف إلى درجة العقم، وهو يرى الشعوب الأخرى التي لا تحكمها أحزاب - تسمي نفسها تقدمية- تحقق نمواً ومواكبة متميزة للعصر ومنجزاته، مما أسهم في تعرية أكاذيب شعارات الطغاة المستبدين الذين حول بعضهم دولته إلى شركة خاصة له ولبعض خاصته، ولم تكن قضايا الإيديولوجيا ذات شأن جاد، ففي سوريا مثلاً لم يثر الشعب لأسباب تتعلق بعقيدة الحكم أو طائفته، وإنما قامت الثورة لأسباب تتعلق بحق الشعب في الحرية والكرامة، ولم يكن اختيار المساجد للتجمع ذا بعد ديني كما يظن بعض المحللين. لقد كان اختيارها لسبب أمني، فهي المكان الوحيد الذي يسمح فيه بالتجمع وقت صلاة الجمعة، وهذا سر تحول يوم الجمعة إلى موعد تتصاعد فيه الثورة، ولم يكن أحد من أهل السنة في سوريا يضيق بالشيعة مثلاً. وكان أهل السنة يكبتون ضيقهم حين ينهي حسن نصرالله خطاباته بتهديد هو شعار ديني "الثأر الثأر للحسين" وكنا نمني النفس بأن يكون هذا الشعار مجرد تعبير عن المظلومية التاريخية، على رغم أنه شعار يهدد في مستواه المباشر أهل السنة تحديداً، وأهل الشام بخاصة، حتى إنني قلت ذات يوم بروح من الدعابة بين الجد والهزل، لأحد المسؤولين في حزب الله "يا أخي نحن أهل السنة في دمشق نحب سماحة السيد ونصغي إلى خطبه بشغف، حتى إذا ختم خطابه بنداءات الثأر، أصابنا الوجوم ونظر أحدنا لصاحبه هامساً: ممن سيثأر سماحة السيد؟. وهذا الشعور لدى المتابعين لخطابه لا يكون إلا في أهل السنة وفي الشام تحديداً، فأهل مصر والشمال العربي الإفريقي، وكذلك أهل السودان والسعودية والخليج غير متهمين بقتله، وحدهم أهل الشام من سلالة الأمويين مقصودون بهذا الثأر، وأنا أرجوك أن تسأل سماحة السيد إن كان متأكداً من أن القاتل يعيش في الشام الآن، فبوسعنا أن نسلمه إياه، وننهي هذه القصة ونطوي صفحة الثأر!". ويبدو خطيراً أن يسعى أحد اليوم في عصر الثورات من أجل الحرية لإيقاظ هذا الثأر التاريخي بين السنة والشيعة، وقد عاشت الطائفتان منسجمتين مئات السنين. بل إن استحضار العقائد الطائفية على اختلافها، في التجمعات والأحزاب السياسية يبدو نوعاً من اللامعقول في عصر تلاحم الثقافات، وقد وصل الأمر إلى استعادة الصراعات الشعوبية بين العرب والفرس وبعض التصريحات الإيرانية، فضلاً عن مواقفها المعلنة ضد الشعب السوري وضد شعب الخليج العربي، جعلت العرب يضيقون حتى بسياسة مصر الراهنة في انفتاحها المجاني على إيران، كما يضيق السوريون بالموقف الرسمي المصري المجامل من ثورتهم. وكان أولى بثورة يناير أن تكون هي الحاضنة الكبرى للثورة السورية، وأن تكون القضية السورية مركزية في الاهتمام الرسمي، كما هي عند شعب مصر العظيم والشعوب العربية التي تحتضن السوريين احتضان الإخوة والأشقاء. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية