إسرائيل تتغير من الداخل. ويتمثل هذا التغيير في انحسار نسبة اليهود العلمانيين وارتفاع نسبة المتشددين الدينيين. وتقول الإحصاءات الأخيرة إن المتشددين يشكلون اليوم 25 في المئة، وإن هذه النسبة مرشحة للارتفاع إلى 40 في المئة في العقدين المقبلين، وهذا يعني المزيد من التشدد في السياسة الإسرائيلية، ومزيداً من الاستيطان والتوسع، ومزيداً من التطرف السياسي والتصعيد العسكري. عندما ربحت إسرائيل حرب يونيو 1967 انطلقت موجة التشدد الديني بين يهود الولاياتالمتحدة، ومن ثم انتقلت إلى إسرائيل. فقد اعتبر اليهود انتصار إسرائيل عسكرياً على الدول العربية نصراً من الله، وترجمة لوعده لبني إسرائيل، ولاسيما أن هذا الانتصار وضع القدس تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة لأول مرة. وكان من نتائج تلك الحرب، الهجرة اليهودية الواسعة إلى إسرائيل تلبية لما سموه "نداء الوعد الإلهي". وتلاقى اليهود الأمريكيون في ذلك مع الحركة الصهيونية المسيحانية التي وجدت في الانتصار العسكري الإسرائيلي ترجمة عملية للنبوءات الدينية التي تؤمن بها تلك الحركة حول العودة الثانية للمسيح. وبموجب هذه النبوءات الواردة في سفر حزقيال فإن المسيح لن يعود إلا إلى الهيكل.. وأن الهيكل لا يكون إلا في القدس، وأن القدس لا تكون إلا يهودية. وقد تحققت يهودية القدس، ولابد من تحقيق بناء الهيكل حتى تكتمل شروط العودة المنتظرة! ولذلك عندما خسرت إسرائيل حرب رمضان- أكتوبر 1973، ألقي اللوم على حكومة حزب "العمل" التي كانت تمسك بالسلطة في ذلك الوقت. واعتبرت الهزيمة عقاباً على تولي يهود غير متدينين للسلطة. ووضعت الهزيمة في إطار العقاب الإلهي الذي دفع ثمنه حزب "العمل". ومنذ ذلك الوقت بدأ أفول هذا الحزب الذي حكم إسرائيل منذ إنشائها ولمدة ثلاثة عقود متوالية. ولكن خلافاً للحسابات الدينية اليهودية المتشددة، لم تعش سلطة اليمين الديني الذي تولى السلطة بعد ذلك طويلاً. فقد أسقطتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1988. وعندما فاز نتنياهو في عام 1996 برئاسة حكومته الأولى، لم يكن يتقدم على تحالف حزب "العمل" إلا بثلاثين ألف صوت فقط، أي ما يعادل واحداً في المئة لا غير؟ أما الآن فمن المرجح أن يحقق نتنياهو في الانتخابات المقبلة التي دعا إلى إجرائها في 22 يناير القادم، فوزاً ساحقاً لوقوف اليمين الديني المتطرف إلى جانبه، بعد أن أصبح هذا اليمين يسيطر بشكل أو بآخر على الحياة السياسية الإسرائيلية. من أجل ذلك يدفع نتنياهو بإسرائيل نحو المزيد من التشدد الديني، أولاً من خلال تشجيع الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتمويله وحمايته، وثانياً من خلال إجهاض مشروع الدولتين الذي أقرته اللجنة الرباعية المؤلفة من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وكل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الروسي، وثالثاً من خلال استعمال هراوة اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة لليّ ذراع أوباما وحمله على التراجع عن التعهدات العلنية التي قطعها على نفسه في الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة، لتحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية. ويراهن نتنياهو في معركته الانتخابية المقبلة على قضية الملف النووي الإيراني. فقد اصطنع من هذا الملف عامل تخويف للإسرائيليين، ونصّبَ نفسه "البطل" القادر على معالجة هذا الملف بالسلم أو بالحرب. بالسلم من خلال تشديد ومضاعفة الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية على إيران، وبالحرب من خلال الاستعداد والتهديد بعملية عسكرية لضرب المفاعلات النووية الإيرانية. وقد جاءت عملية قصف المصنع العسكري في الخرطوم لتعزز من قوته الانتخابية. فالعملية أوحت للإسرائيليين بأن من يستطيع ضرب السودان، يستطيع ضرب إيران. فالمسافة من إسرائيل إلى الخرطوم أبعد من المسافة من إسرائيل إلى إيران. ولكن الإسرائيليين يعرفون أن إيران مسلحة حتى أسنانها، خاصة بالصواريخ المضادة للطائرات، وهو ما لا تملكه السودان. كما أنها مزودة بشبكات رادار حديثة لتعقب الطائرات، وهو ما تفتقر إليه السودان أيضاً. ومع ذلك فإن عملية الخرطوم وظفت في الحملة الانتخابية الإسرائيلية على أوسع نطاق. ولا يستطيع نتنياهو أن يتحمل خسارة معركة الملف النووي الإيراني، سواء كانت معركة سياسية أو عسكرية. فمستقبله السياسي كزعيم أول متوقف على انتصاره في هذه المعركة، وخسارته لها تعني نهايته ليس فقط كرئيس للحكومة ولحزب "الليكود"، ولكن كواحد من أهم زعماء إسرائيل. وفي الواقع فإن خصومه السياسيين الإسرائيليين يبدون في حالة أقرب إلى الاستسلام له واليأس من القدرة على إزاحته. فقد نجح نتنياهو في استقطاب المتشددين من اليهود وشجعهم على الهجرة بكثافة من الولاياتالمتحدة وأعطاهم "حق" مصادرة الأراضي الفلسطينية، وقام بتمويل بناء المستوطنات عليها؛ ولقد ملّ العالم من الاحتجاج على قاعدة اعتبار بناء المستوطنات مخالفاً لمقررات الأممالمتحدة التي وافقت إسرائيل ذاتها عليها. ووصل الملل بالمجتمع الدولي إلى التوقف عن الإعراب عن أي شكل من أشكال الاحتجاج، والقوى الوحيدة التي تتحرك ضد سياسة الاستيطان التي يشجعها نتنياهو، هي قوى مدنية أوروبية وكنسية أمريكية. فبعضها يطالب بمقاطعة منتجات المستوطنات اليهودية، وبعضها الآخر، مثل الكنيسة المشيخية في الولاياتالمتحدة، بادر إلى سحب ودائعه الاستثمارية من إسرائيل، احتجاجاً. وفي الأسبوع الماضي وجهت كنيسة المسيح المتحدة وكنيسة رسل المسيح مع 13 كنيسة ومؤسسة دينية إنجيلية أمريكية أخرى، مذكرة إلى الكونجرس الأمريكي تندد فيها بسياسة إسرائيل الاستيطانية، وتطالب الكونجرس بإلزام إسرائيل باحترام المبادئ العامة التي تتعلق بتقديم المساعدات الأمريكية إليها أسوة ببقية الدول الأخرى التي تحصل على هذه المساعدات.. ومن هذه المبادئ احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق والقوانين الدولية عامة وبالقوانين الأمريكية خاصة، وهو ما لا تلتزم به إسرائيل. وقد وقع على المذكرة القس الدكتور جوفري بلاك رئيس كنيسة المسيح المتحدة، والقس الدكتور شارون واتكنز رئيس كنيسة رسل المسيح، والقس جيمس موس المدير التنفيذي في كنيسة المسيح، والعديد من كبار القساوسة. وكان المؤتمر العام للكنيسة قد خصص ندوة عن القضية الفلسطينية تحدث فيها القس الدكتور بيتر مكاري، اتخذت في ضوئها قرارات تبنتها الجمعية العامة، وهي القرارات التي انعكست في الموقف المتمثل في المذكرة التي رفعت الآن إلى الكونجرس. وبعد أن نددت المذكرة بالعنف، أعربت عن قلقها من المساعدات الأمريكية غير المشروطة التي تقدم إلى إسرائيل، واعتبرت ذلك خرقاً للقوانين الأمريكية لأنه يساعد إسرائيل على مواصلة احتلالها وتوسعها في الأراضي الفلسطينية. ووصفت الكنيسة على لسان الدكتور مكاري ذلك بأنه مخالف للأخلاقيات التي تتطلبها جهود السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ونددت المذكرة الكنسية كذلك باستخفاف إسرائيل بمواقف الحكومة الأمريكية، وتجاوزاتها المتكررة لمطالبها المتعلقة بالامتناع عن بناء مستوطنات جديدة، وعلى رغم ذلك، وكما جاء في المذكرة، فإن إسرائيل لا تزال المستفيد الأول في العالم من المساعدات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن هذا الموقف الأخلاقي- الروحي لكنائس إنجيلية أمريكية، يلقى تعمية في الإعلام الذي تهيمن عليه الحركة الصهيونية، واستهجاناً من إسرائيل واللوبي اليهودي الأمريكي، كما أنه يكاد لا يعرف في العالمين العربي والإسلامي. ولذلك ففي الوقت الذي تتعرض فيه هذه الكنائس ل"العقاب" الإسرائيلي الشديد، لا تسمع -مع الأسف الشديد- كلمة شكر أو تقدير عربية أو إسلامية. ولا تقتصر المواجهة بين هذه الكنائس الأمريكية وإسرائيل، ولكنها تتعدى ذلك إلى المواجهة مع الحركة الصهيونية المسيحانية التي تعتبر من أقوى حركات التطرف الديني في الولاياتالمتحدة المؤيدة لإسرائيل على خلفية الترجمات الحرفية لنبوءات توراتية. وتقوم هذه الحركة الأمريكية (تدّعي أنها تضم أكثر من 70 مليون أمريكي) بتمويل مشاريع الاستيطان وبالتحريض على تدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل الذي تعتقد أن المسيح ينتظر بناءه ليعود إليه ثانية! وبذلك تشكل هذه الحركة الأمريكية عاملاً أساساً من عوامل التغيير في الداخل الإسرائيلي المتمثل في ارتفاع نسبة المتشددين اليهود الذين يتقدمهم نتنياهو. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية