لا ينفصل الدين عن الدولة في أية دولة على الأرض، إلا في الظاهر، فالدين يلعب دوراً فائق الأهمية حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها علمانية. مع أن الولاياتالمتحدة هي في مقدمة الدول التي يفصل دستورها بين الدين والدولة، إلا أن الوقائع تثبت - حتى في واقعنا الراهن - أن بعض الملل والنحل المسيحية، وبخاصية الملل والنحل المسيحية ذات التوجه اليهودي والصهيوني، سطوة كبيرة على المحاكم، أو على إدارة الدولة. فهي التي تتدخل لدعم هذه السياسة، أو لغرض تلك، وللانحياز باستمرار إلى جانب إسرائيل على أنها الدولة التي يمهد قيامها لعودة المسيح المنتظر، وعلى أنها الدولة التي يُعتبر قيامها عام 1948م تحقيقاً لإرادة إلهية، وعلى التحديد، تحقيقاً لوعود ونبوءات التوراة. محمد السماك في طبعة جديدة من كتابه "الصهيونية المسيحية" برصد مبادئ هذه الملل والنحل المسيحية التي استطاعت الصهيونية أن تتغلغل فيها داخل أكبر دولة غربية في الوقت الراهن، وأكبر دولة على الأرض أيضاً، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد بدأ نفوذ الصهيونية في المسيحية عند مارتن لوثر زعيم حركة الإصلاح ورائد المذهب البروتستانتي الذي أصدر في عام 1523كتاباً بعنوان "عيسى ولد يهودياً" قال فيه: إن الروح القدس انزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. ان اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء.. ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل ما يتساقط من فتات مائدة أسيادها كالمرأة الكنعانية تماماً". المذهب البروتستانتي هو المذهب الذي تدين به غالبية الأمريكيين. ولكن داخل هذا المذهب شيع كثيرة تُعد بالعشرات منها ما لا يمكن فصل عقيدته عن اليهودية أو الصهيونية لفرط الاشتباك والتفاعل بينهما. أما الأدبيات اليهودية التي تسربت إلى صميم العقيدة المسيحية عبر هذه الشيع، فهي تدور حول أمور ثلاثة: - الأمر الأول هو أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكوّنون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم. - الأمر الثاني هو أن ثمة ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين، وأن هذا الميثاق الذي أعطاه الله لإبراهيم عليه السلام هو ميثاق سرمدي حتى قيام الساعة. - الأمر الثلاثة هو ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيون، أي بإعادة تجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم. فقيام دولة إسرائيل، هو شرط جوهري للعودة المنتظرة للمسيح. ومن أجل ذلك ينبغي تقديم كل أنواع الدعم والمساعدة لها. هذه الأمور الثالثة ألّفت في الماضي، وتؤلف اليوم، قاعدة الصهيونية المسيحية التي تربط الدين بالقومية، تسخّر الاعتقاد الديني المسيحي لتحقيق مكاسب يهودية. ولهذه الصهيونية المسيحية نفوذ هائل في الولاياتالمتحدة اليوم. ويقول المؤلف إن الإصلاح الديني داخل المسيحية الذي تزعمه لوثر طرح فكراً مؤداه أن اليهود هم الأمة المفضلة، وأن عودتهم إلى أرض فلسطين تحقق وعد الله، وأن هذه العودة ضرورية لعودة المسيح وقيام مملكته مدة ألف عام. وتكريساً لذلك، أصبح العهد القديم، أو التوراة، المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية وبلورتها، وفتح باب تفسير نصوصه أمام الجميع لاستخراج المفاهيم الدينية دون قيود. كذلك اعتبرت اللغة العبرية - باعتبارها اللغة التي أوحى بها الله، هي اللغة المعتمدة للدراسة الدينية. من خلال ذلك تغلغل الفكر اليهودي إلى قلب الحركة الدينية لدرجة أن فيلسوفاً يهودياً اسمه هوجونحو وتيوس نشر كتاباً عنوانه "حقيقة الدين المسيحي" سفّه فيه التحقير المسيحي لليهودية، وأبرز الجوامع المشتركة في اليهودية والمذهب البروتستانتي.ويضيف المؤلف: في العام 1492م اكتشفت أمريكا. وفي العام نفسه سقطت غرناطة الأندلسية. وإذا كانت محاكم التفتيش الكاثوليكية قد دفعت باليهود إلى أوروبا هرباً بدينهم، فإن الصراع الديني في أوروبا نفسها عمل في مطلع القرن السابع عشر المتهوّدين الجدد إلى العالم الجديد. وكما كانت لهجرة يهود الأندلس آثار مباشرة على حركة الإصلاح الديني وعلى حكومات الدول التي هاجروا إليها (وخاصة في فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا)، وكذلك كان لهجرة أتباع الدين الجديد من البروتستانت والتطهريين آثار مباشرة على بلورة الشخصية الأمريكية بالصورة التي تقوم عليها حتى اليوم. المهاجرون الأوائل أعطوا أبناءهم أسماء عبرانية: إبراهام، سارة، اليعازر... وأطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية: عبرون، سالم، وكنعان.. وفرضوا تعليم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم حتى أن أول دكتواه منحتها جامعة هارفارد في العام 1642م كانت بعنوان: "العبرية هي اللغة الأم" وأول كتاب صدر في أمريكا كان سفر المزامير لداوود، وأول مجلة كان اسمها: اليهودي! وقد بلغ من تأثير الصهيونية المسيحية على الرواد الأوائل في أمريكا قد اقترح معه الرئيس جيفرسون اتخاذ ورمز لأمريكا يمثل أبناء إسرائيل تظللهم خيمة في النهار، وعمود من نور في الليل، بدلاً من شعار النسر، وذلك توافقاً مع ما يتضمنه "سفر الخروج" في التوراة!. وقد تبنى مؤسس الكنيسة المورمونية (ذات النفوذ الكبير في السياسة الأمريكية اليوم) القس جوزف سميث، نظرية البعث اليهودي في فلسطين. وارتفعت منذ العام 1814الدعوات الأمريكية الإنجيلية لتوطين اليهود في فلسطين. أحد رواد الحركة المسيحية الصهيونية الأمريكية القس وردر جريسوف هاجر من أمريكا إلى فلسطين واعتنق اليهودية، وعمل مستشاراً للحكومة الأمريكية في القدس. ثم قنصلاً عاماً لها، وكان نشاطه يتركز حول موضوع واحد هو إقامة وطن يهودي في فلسطين. بعد ذلك توالت حركات الاستيطان بتمويل من رجال أعمال أمريكيين، فقامت مستوطنة (جبل الأمل) إلى الغرب من يافا في العام 1850.وكان اقبال الصهاينة المسيحيين على الاستيطان أشد من اقبال الصهاينة اليهود، وذلك انتظاراً "للعودة الثانية للمسيح".. تعتقد الصهيونية المسيحية أن ثلاثة إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح: - الإشارة الأولى هي قيام إسرائيل. - الإشارة الثانية هي احتلال مدينة القدس. - والإشارة الثالثة هي إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى. لقد وضعت خريطة الهيكل الجديد فيما تتواصل الحفريات تحت المسجد بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة. وفي الوقت نفسه يتم إعداد وتدريب كهان الهيكل في معهد خاص بالقدس. أما الأموال اللازمة فقد جُمع معظمها وأودع في حساب خاص باسم مشروع بناء الهيكل!! أما بعد اكتمال المشروع، فستقع معركة هرمجدّون التي يظهر المسيح فوقها مباشرة وسيرفع إليه بالجسد المؤمنين به ليحكم العالم في القدس مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة (صفحة 73). ثلاثة عوامل رئيسية لعبت برأي المؤلف في تولي الولاياتالمتحدة مسؤولية دعم إسرائيل وحمايتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. العامل الأول هو تنامي النفوذ الصهيوني اليهودي وسيطرته على أسواق المال وعلى منابر الإعلام الأمريكية. العامل الثاني هو تنامي الحركة الكنسية الإنجيلية - التدبيرية التي تؤمن بالتفسيرات السياسية لنبوءات توراثية تربط بين مودة المسيح وقيام إسرائيل، مما أعطى دفعاً قوياً لحركة الصهيونية المسيحية. أما العامل الثالث فهو تنامي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. على التقاء هذه العوامل الثلاثة تقوم ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة، حتى أن هناك اعتقاداً لدى الحركة الصهيونية بجناحيها اليهودي والمسيحي بأن الله يحمي أمريكا لأن أمريكا تحمي إسرائيل، كما يقول أحد أقطاب هذه الحركة جيري فولويل.ويرى المؤلف أخيراً أن دراسة أسس ومبادىء الحركة الصهيونية المسيحية وتتبع مسيرتها التاريخية في الثقافات الغربية، وإدراك دورها المباشر في صناعة القرار السياسي في أوروبا، وبعد ذلك في الولاياتالمتحدة تشكل واجباً معرفياً بدونه يستحيل فهم العناصر المتحركة للسياسة الأمريكية وللسياسات الأوروبية في الشرق الأوسط. ولا شك أن هذه الدراسة للباحث الإسلامي المعروف محمد السماك تُسهم في إلقاء الضوء على جوانب معتمة من هذه القضية.