في الوقت الذي بدأ فيه العرب يتعاملون بجدية مع مؤتمر السلام المرتقب في الخريف، وأصبحوا يعولون عليه بشكل كبير في إمكانية إحداث حراك سياسي على مسار القضية الفلسطينية المجمد منذ سنوات، وانعكس ذلك في اجتماعات وزراء الخارجية مؤخرا، خرجت التصريحات المتوالية من المسؤولين “الإسرائيليين” لتقلل من سقف التوقعات، حيث صرح إيهود أولمرت بأنه من المستبعد التوصل إلى اتفاق إطار مع الرئيس أبو مازن قبل المؤتمر، كما استبعد المفاوضات حول قضايا الوضع النهائي خاصة اللاجئين والحدود والقدسالشرقية، كذلك قللت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني من سقف التوقعات من المؤتمر، وقبل ذلك قلل المسؤولون الأمريكيون أيضا كما جاء على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض من أهمية المؤتمر أو ما يمكن أن يسفر عنه من نتائج جوهرية، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول مغزى المؤتمر وجدواه، وما الذي يمكن أن يقدمه؟ وإذا كانت “إسرائيل” لن تقدم تنازلات حقيقية ولن تمارس الولاياتالمتحدة دورا فاعلاً في عملية السلام، فلماذا انعقاد المؤتمر أساسا، وما هي الأهداف التي ترمي إليها الإدارة الأمريكية من ورائه خاصة في هذا التوقيت؟ وما الذي يمكن أن يفعله العرب لاغتنام تلك الفرصة حتى لا تضيع كغيرها من الفرص على مدار السنوات الماضية؟ حتى الآن فإن الغموض هو الذي يسيطر، سواء في توقيت انعقاد المؤتمر أو الإعداد له أو في أجندته أو أطرافه المشاركة، فالمنهج الأمريكي يرتكز على الانتقائية، فموعد المؤتمر الحقيقي لم يتحدد بعد، كما أن واشنطن دعت إلى المؤتمر بعض الأطراف الإقليمية، خاصة الفلسطينيين و”الإسرائيليين” ودول عربية مثل مصر والسعودية والأردن وهي ما تطلق عليه محور المعتدلين، في المقابل استبعدت أطراف أخرى مهمة مثل سوريا ولبنان، وهي بذلك تستهدف إحداث فتنة وانقسام عربي بين ما يسمى معتدلين ومتشددين، ومن ناحية ثانية فإن المؤتمر سيركز فقط على المسار الفلسطيني “الإسرائيلي”، وهذا يعني أنه لن يتناول تحقيق السلام الشامل في المنطقة ومن ثم تظل هناك حالة من الخلل يصعب معها تحقيق سلام دائم وعادل يحقق الأمن والاستقرار، ومن ناحية ثالثة فإن تناول المسار الفلسطيني ذاته يعتمد على الانتقائية، أي التركيز على قضايا بناء المؤسسات الفلسطينية وإزالة المعاناة عن الشعب الفلسطيني وتنمية الاقتصاد المنهار في غزة والقطاع، واستبعاد قضايا الوضع النهائي مثل حدود الدولة الفلسطينية المستقلة ومشكلة اللاجئين والمياه والقدسالشرقية، ومن ناحية رابعة فإن دعوة الرئيس أبو مازن وحركة فتح لتمثيل الفلسطينيين في المؤتمر واستبعاد حركة حماس هو انتقائية أيضا لن تساهم في تحقيق اتفاق سلام دائم وشامل يقبله الفلسطينيون بكل طوائفهم السياسية. وإذا كانت مقدمات المؤتمر الظاهرة حتى الآن لن تؤدي إلى مخرجات مهمة، فلماذا دعت الولاياتالمتحدة إليه ولماذا أبدت “إسرائيل” مرونة وتجاوبا معه؟ الواقع أن الإدارة الأمريكية تعيش مأزقا واضحا في العراق أدى إلى تراجع شعبية الحزب الجمهوري وخسارته في انتخابات الكونجرس الأمريكي لصالح الديموقراطيين، لذلك يسعى بوش إلى رفع شعبيته ودعم حزبه في انتخابات الرئاسة في العام المقبل، كما يحاول امتصاص غضب الشعوب والدول العربية جراء ما يحدث في العراق من خلال إحداث حلحلة تكتيكية على مسار القضية الفلسطينية، ويحاول كسب الدعم العربي لأية ضربة عسكرية محتملة ضد إيران أو على الأقل عدم معارضتها، أما الحكومة “الإسرائيلية” فتحاول توظيف المؤتمر لتحقيق أهداف عديدة، أولها رفع شعبية إيهود أولمرت المتدنية وثانيا عزل حماس وحصارها واستبعادها من أي ترتيبات سياسية، خاصة بعد سيطرتها على قطاع غزة، وتحاول دعم أبو مازن، بعد أن كان ضعيفا في وجهة نظرها، من خلال تقديم تسهيلات تكتيكية مثل رفع الحصار عن الضفة الغربية وإزالة بعض حواجز التفتيش والإفراج عن بعض أرصدة السلطة المجمدة والإفراج عن بعض الأسرى. وفي هذا الإطار جاءت لقاءات أبو مازن أولمرت الأربعة كمحاولة من جانب “إسرائيل” لتطويق حماس، لكن دون تقديم تنازلات جوهرية تتعلق بقضايا الوضع النهائي، خاصة أن أولمرت لن يستطيع إبرام اتفاق سلام شامل مع الفلسطينيين، في حالة التوصل إليه، نظرا لشعبيته المتدنية، خاصة مع تهديدات ليبرمان رئيس حزب ““إسرائيل” بيتنا” المتطرف، بالانسحاب من الحكومة إذا توصل أولمرت إلى تفاهمات مع أبو مازن حول قضايا الوضع النهائي. أما أبو مازن فيتبع المنهج الواقعي وشعار “شيء أحسن من لا شيء”، ففي ظل حالة الخلل في موازين القوى فإن مفاتيح الصراع ليست في يده، بل في أيدي “الإسرائيليين” والأمريكيين، ويعتبر أن المؤتمر ربما يكون فرصة مهمة لإعادة إلقاء الضوء على القضية الفلسطينية التي توارت تحت وطأة أحداث وأزمات المنطقة الأخرى، وكذلك إلقاء الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني المأساوية، وهو فرصة لعزل حماس التي قادت انقلابا على السلطة في غزة. أما الدول العربية، التي ترى في المؤتمر فرصة مهمة لإحياء عمليات السلام فقد انقسمت على ذاتها نتيجة لاستبعاد سوريا من المؤتمر، وفي الوقت الذي دعت مصر والجامعة العربية إلى ضرورة دعوة سوريا ولبنان وأن يتناول المؤتمر جميع مسارات السلام، وأن تكون المبادرة العربية للسلام وقرارات مجلس الأمن والاتفاقات السابقة هي المرجعية للمؤتمر وأن يتم البناء على ما سبق، فإن “إسرائيل” ومعها الولاياتالمتحدة تريد التوصل إلى إطار جديد يتجسد في إعلان المبادئ، وهو ما يعني العودة إلى نقطة الصفر. ولاشك في أن نجاح المؤتمر يتطلب أولا توحيد الموقف الفلسطيني والتوصل إلى رؤية مشتركة بين فتح وحماس تتفق على ثوابت القضية الفلسطينية، وثانيا بلورة موقف عربي موحد يؤكد مرجعية المبادرة العربية للسلام كأساس للمفاوضات والضغط لتحقيق تقدم ملموس يفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن المشكلة الرئيسية هي أنه لا الفلسطينيين ولا الدول العربية بيدها مفاتيح الحل، حيث تظل حتى الآن في موقع المتلقي للمبادرات وفي نطاق المطالبات والتأكيد على الثوابت الفلسطينية، دون امتلاك زمام المبادرة أو أوراق الضغط لإنجاز السلام، أما الولاياتالمتحدة فهي الطرف الوحيد القادر على الضغط على الحكومة “الإسرائيلية” لتقديم تنازلات جوهرية، وتشير خبرة الماضي إلى أنه لم تظهر في الأفق وجود رغبة حقيقية من جانب “إسرائيل” ومعها الولاياتالمتحدة لتحقيق سلام عادل وشامل يرتكز على تنفيذ القرارات الدولية والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والدائمة وعاصمتها القدسالشرقية وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين، بينما الواقع يشير إلى سياسة إضاعة الوقت من جانب “إسرائيل” في المزيد من المبادرات والمؤتمرات والاتفاقات لفرض الأمر الواقع في النهاية وهو ما لن يخرج عنه مؤتمر أو اجتماع السلام في الخريف المقبل الذي يلفه الغموض حتى الآن.