إن أفضل الطرق لإدراك التنوع العجيب لردود أفعال الناس يتمثل في أن تتحدث إلى مجموعة منهم، وعندها ستلاحظ اختلاف ردود أفعالهم على الشيء نفسه، فلو سردت عليهم قصة مؤثرة فإنها ستنال الترحيب من فئة ما في حين أنها ستزعج آخرين بسبب الضيق الذي سيشعرون به، وكذلك إذا ذكرت طرفة فستعجب عند رؤية أحدهم يقهقه في حين أنها لم تؤثر في شخص آخر يجلس بجانبه، والمعنى المستفاد هو أن كل شخص منا يستمع (يستقبل) بلغة ذهنية مختلفة. والسؤال هو: لماذا يستجيب الناس بصور مختلفة على نفس الرسالة؟ لماذا يرى شخصاً ما أن نصف الكأس فارغ في حين يرى آخر أن نصفه ممتلئ تماماً؟ لماذا يسمع شخص ما رسالة فيشعر بالنشاط في حين يسمعها آخر فلا يستجيب لها بشيء؟ والجواب هو: أنك تستطيع دفع أي شخص إلى ما تريد أن يفعله لو تحدثت إليه بالأسلوب الملائم له، أما إن حدثته بالأسلوب الخطأ فلن تتمكن من الحصول منه على رد الفعل الذي ترغب به، أو حتى على أي شيء إيجابي. إن أكثر الرسائل إلهاماً، وأكثر الأفكار تمعناً، واكبر مقالات النقد ذكاء، لعديمة المعنى ما لم يفهمها الأشخاص الموجهة إليهم فكرياً وعاطفياً، وهذا هو المفتاح الرئيس ليس فقط لقوة شخصيتك في التواصل والإقناع، بل هو كذلك للعديد من الموضوعات الأعم التي تواجهها طوال اليوم في عملك وفي بيتك ومع زبائنك، وحتى مع الأصدقاء. فإن أردت أن تصبح أستاذاً في الإقناع والتواصل مع الآخرين في الحياة العملية والشخصية عليك أن تتعرف الأسلوب المناسب للدخول إلى شخصية كل واحد منهم. كيف يعالج الناس المعلومات؟ تتمثل الخطوة الأولى في فهم الأنماط العقلية الداخلية للناس من خلال فهم المفاتيح التي يعالج بها الفرد المعلومات، وهي أنماط عقلية داخلية تساعد على تحديد كيفية تكوينه لتمثيله الداخلي وعلى توجيه سلوكه، فالبرامج العليا في الدماغ هي برامج داخلية نستخدمها في تحديد ما ننتبه إليه، فنحن نحرف ونحذف المعلومات لأن العقل لا يستطيع أن ينتبه إلى هذا الكم الهائل من المعلومات في وقت واحد. ويقوم العقل بمعالجة المعلومات بنفس الطريقة التي ينتهجها الكمبيوتر، فهو يقوم بتلقي كمية هائلة من البيانات فينظمها ويضمها إلى مفاهيمه، وليس بمقدور الكمبيوتر أن يفعل ذلك دون برنامج جاهز مسبقاً ومغذى به الكمبيوتر ليقوم بفرز البيانات وهيكلتها بطريقة معينة، وتعمل البرامج العليا في الدماغ بنفس الطريقة فهي مبرمجة من قبلنا بنظام يحكم، ما الذي يجب أن نوجه إليه انتباهنا وما الذي يمكن إهماله، هذا البرنامج يأتي ويتشكل نتيجة للأفكار والتصورات والمعتقدات التي ننسجها في أذهاننا من خلال ما يدور من حولنا وما نواجه من تجارب، وردود الأفعال التي تنتج عنها. فهذه البرامج هي التي تقرر الأساس الذي نستند عليه فيما إذا كان ما نسمعه أو نواجهه أمراً مشوقاً أو مضجراً، نعمة أم نقمة، فرحاً أو حزناً، ولكي تتواصل مع الكمبيوتر وتُدخِل عليه ما ترغب من معلومات يتقبلها، يجب عليك أن تفهم برنامجه الجاهز، وكذلك عقول الناس، فلكي تتواصل بفعالية مع شخص ما عليك أن تفهم برامجه العلياً حتى تستطيع أن تدخل إليها بكل سهولة ويسر وتنال القبول (الإقناع) لديه. ما الذي تعنيه هذه المعلومة؟ إنها تعني الكثير، فإذا كنت مسوقاً يبيع منتجاً ما فبإمكانك أن تروجه بطريقتين: إما من خلال ما تقوم به، أو من خلال ما لا تقوم به، فبإمكانك أن تبيع سيارة عن طريق التأكيد على كونها سريعة ورشيقة وجميلة، أو من خلال التأكيد على أنها لا تستهلك الكثير من الوقود، ولا تكلف صيانتها الكثير، وإنها آمنة جداً عند الحوادث، والاستراتيجية التي تستخدمها هنا ينبغي أن تعتمد كلية على استراتيجية الشخص الذي تحاول أن تبيعه، فإذا استخدمت الاستراتيجية الخاطئة فلن تفلح معه في شيء لأنك تحاول أن تجعله يتقدم إلى شيء ما وكل ما يريده هو أن يجد سبباً جيداً للابتعاد عنك . تذكر أن السيارة تتحرك إلى الأمام أو الخلف، لكن ذلك يتوقف على أي اتجاه توجد فيه مقدمتها، وينطبق نفس الأمر على المستوى الشخصي، فلنفترض أنك ترغب في أن يقضي ابنك المزيد من الوقت في القيام بواجباته الدراسية، فقد تخبره: من الأفضل أن تذاكر ، وإلا فلن تدخل كلية جيدة ، أو أن تقول له: أنظر إلى فلان لقد ترك المدرسة لأنه لم يذاكر، ولذا سوف يقضي بقية حياته في العمل بمحطة الوقود، فهل هذه الحياة التي تريدها لنفسك؟ ، ما مدى نجاح هذه الاستراتيجية؟ يتوقف ذلك على عقلك، فإذا كنت تدفعه للابتعاد عن الأشياء فقد تنجح معه، ولكن كيف يكون الحال لو كان من النوع الذي يتوجه إلى الأمور؟ ماذا لو كانت الأمور التي تبث فيه تدفعه للتحرك نحو الأمور التي يجدها جذابة؟ إذا كانت هي الطريقة التي يستجيب بها، فلن تغير من سلوكه بتقديم أمثلة عن أشياء عليه أن يبتعد عنها، بإمكانك أن تحثه وتقنعه لأقصى درجة إلا أنك تتحدث إليه بالأسلوب الخاطئ، تماماَ كما لو كان كلّ منكما يتكلم بلغة غير لغة الآخر ، وبهذا فإنك تضيع وقتك ووقته، لذا سوف تمنح طفلك دافعاً أكبر بقولك له ( لو فعلت هذا فإن بإمكانك أن تختار الكلية التي تحبها). الإقناع لنفترض أنك تحاول إقناع شخص ما بحضور ندوة ، قد تقول له: عليك أن تحضر هذه الندوة إنها ندوة عظيمة، لقد ذهبت إليها، وكذلك فعل أصدقائي، وتمتعوا جميعاً بوقت رائع، وظلوا يتحدثون عنها أياما وقالوا جميعاً: إنها غيرت من حياتهم نحو الأفضل ، فإن كان لحديثك هذا إطار مرجعي خارجي لديه، فأكثر الاحتمالات انك ستقنعه. ولكن ماذا لو كان لديه إطار مرجعي داخلي يخالف ذلك؟ سوف تواجهك عندئذ صعوبة في إقناعه وإخباره بما يعتقده الآخرون، حيث أن هذا لا يعني شيئاً بالنسبة له، ولن تستطيع أن تقنعه إلا من خلال الأشياء التي يعرفها ويطمئن إليها، ماذا لو قلت له: أتذكر سلسلة الندوات التي ذهبت إليها في العام الماضي، أتذكر انك قلت عنها إنها أفضل تجربة مررت بها من سنوات؟ حسناً اعرف شيئاً ربما يشبه هذه التجربة، أعتقد انك لو حضرتها لربما مررت بنفس التجربة، ما رأيك؟ ... هل سيفلح ذلك معه؟ بالتأكيد لأنك تتحدث إليه بلغته. يجدر بنا الإشارة إلى أن هذه البرامج لا يتم تكوينها جميعاً بصورة متساوية، هل سيكون الناس في وضع أفضل إذا كانوا يقبلون على الأمور بدلاً من الابتعاد عنها؟ الجواب: ربما، هل سيكون العالم في حالة أفضل إذا قام الناس بمراعاة مصلحة الآخرين بدلاً من مصلحتهم الخاصة؟ الجواب: أمر محتمل، لذلك علينا أن نتعامل مع الحياة كما هي وليس كما نريدها أن تكون، ثم بعد ذلك نستطيع أن نغير لما نود أن تكون عليه. وإذا رغبت في التواصل معه بصورة فعالة، عليك أن تفعل ذلك بصورة تجدي معه نفعاً، والطريقة هي أن تلاحظ الشخص عن كثب قدر ما استطعت، استمع لما يقول، وإلى نوع الاستعارات التي يستخدمها، وما تنم عليه فسيولوجيته، متى يكون حسن الإنصات؟ ومتى يشعر بالضجر والملل؟ إن الأفراد يُظهرون برامجهم العليا بصورة مستمرة ومتواصلة، ولا يحتاج الأمر إلى دراسة مكثفة لمعرفة ميول الآخرين أو الطريقة التي يقيسون بها الأمور في وقت معين، فإذا علمت كل ذلك عن الشخص، سهل عليك الدخول إلى برامجه. ولتحديد ما إذا كان شخص ما يقيس الأمور تبعاً لمصلحته أو لمصلحة الآخرين، عليك أن تلاحظ مدى ما يمنحه من انتباه للآخرين، هل يميل إلى الأمام تجاه من يحدثهم وتظهر على وجهه تعبيرات تعكس اهتمامه بما يقولون، أم انه يحنى رأسه للخلف ويستمر في الضجر وعدم الاستجابة، جميعنا يقيس الأمور تبعاً لمصلحته الخاصة في بعض الأحيان، بل إن ذلك أمر مهم في أحيان معينة، إن تصرفات الناس معك عبارة عن صورة لما تقوم أنت به بصورة مستمرة ، حتى لو كانت طريقتك في قياس الأمور تمكن من تحقيق النتائج التي ترغبها من عدمها. استراتيجية الإقناع تتكون استراتيجية الشخص المقنع من جزءين، فلكي تعرف ما الذي يقنع شخصاً ما بصورة دائمة يجب أن تعرف ما هي المكونات والمنبهات الحسية التي يحتاج إليها لكي يقتنع وهذا هو الجزء الأول، ثم عليك أن تكتشف عدد المرات التي يحتاج فيها إلى استقبال هذه المنبهات قبل أن يقتنع، وهذا هو الجزء الثاني، ولكي تكتشف البرامج العليا لإقناع شخص ما عليك أن تسأله السؤال التالي أو ما يشبه: كيف تعرف أن أشخاصاً يجيدون القيام بوظائفهم؟ هل ينبغي عليك أن : تراهم أو تشاهدهم أثناء قيامهم بذلك؟ أو أن تسمع بمدى حسن قيامهم به! أو تقوم بها معهم! أو أن وظائفهم تنم عن قدراتهم! أو أن الإجابة خليط مما سبق! والسؤال الثاني هو: كم مرة يجب على الشخص أن يظهر حسن عمله قبل أن تقتنع؟ هنالك أربع إجابات محتملة : - إذا اظهروا إجادتهم لشيء ما مرة واحدة فستقتنع بذلك. - عدة مرات أو مرتين أو أكثر . - على مدار فترة زمنية . - نحو بضعة أسابيع أو شهور أو سنة . - بصورة مستمرة . - يجب على الشخص أن يظهر أنه جيد في كل مرة. إن الإجابات التي تحصل عليها منه ستقودك إلى مفتاح شخصيته وإلى الأسلوب المناسب لإقناعه. الثقة والألفة والإقناع إذا كنت ترأس مؤسسة، فإن الثقة والألفة من الأمور المفيدة جداً التي يمكن تحقيقها مع مرؤوسيك، فلو عرفوا أنك تهتم بأمرهم لاجتهدوا وحسنوا من عملهم من أجلك، أما إذا انعدمت ثقتهم بك فلن يحدث ذلك ، إن دقة الانتباه للحاجات المختلفة للناس على اختلافهم، تعتبر من عوامل بناء الثقة، إن الناس يقيمون علاقات مع الغير ويحافظون عليها، وإن علموا أنك عادل معهم وأنك تهتم بأمرهم ، فستقيم بذلك رباطاً يدوم ويدوم، إلى أن تفعل شيئاَ ما يخل بهذا الرباط، وهذا لا ينطبق على الجميع فبعض العمال يحتاجون لما هو أكثر من ذلك سواء كان إطراء أو رسالة تفيد موافقتك على أدائهم ، أو اظهار الولاء والموهبة مع الآخرين، إلا ان بعضهم الاخر يحتاج إلى درجة أكبر من ذلك ، وبالتالي يحتاجون إلى قدر اكبر من الأدلة على استمرار ما يربط بينك وبينهم، وبالمثل فإن رجل المبيعات يعرف زبائن اشتروا منه مرة واحدة فصاروا زبائن دائمين له. في حين أن غيرهم يجب أن يرى المنتج أكثر من مرة قبل أن يقرر الشراء وقد تمر ستة شهور بالنسبة للآخرين قبل أن يشتروا مرة أخرى، وبطبيعة الحال هناك المشتري الذي يفضله رجل المبيعات ألا وهو العميل الذي يستخدم منتجاته منذ سنوات، وفي كل مرة تذهب إليه يستفسر عن السبب وراء احتياجه إلى منتجك، وهو ما يظهره له رجل المبيعات في كل مرة ، ويظهر نفس هذا الأمر على مستوى العلاقات الشخصية بدرجة اكبر ، فبالنسبة للبعض إذا أظهرت حبك لهم مرة واحدة فقط أظهرت حبك لهم للأبد وبالنسبة إلى غيرهم يجب عليك أن تثبت لهم ذلك في كل يوم. وتكمن أهمية معرفة هذه البرامج العليا في أنها تزودك بطريقة لإقناع شخص ما، فأنت تعرف مسبقاً ما الذي يقنعه، كما لا تشعر بالضيق تجاهه، ذلك لأنك تتوقع صدور هذا السلوك منه.