بعد أشهر من الأخذ والرد بين عباس ونتنياهو، ها هو الأول يستعد للعودة إلى الأممالمتحدة بعد تلقيه رداً سلبياً من الجانب الإسرائيلي، على رسالته التي أكد فيها أنه "نتيجة لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لم يعد للسلطة الفلسطينية أي سلطة وأصبحت دون ولاية حقيقية في المجالات السياسية والاقتصادية والجغرافية والأمنية، أي أن السلطة فقدت مبرر وجودها". وحذرت الرسالة من أن "السلطة لن تستطيع الوفاء بالتزاماتها إذا ما استمر هذا الوضع". ورغم ذلك، ما زال التعنت الإسرائيلي يتصاعد مع رفض كل محاولات السلطة الفلسطينية التي قدمت تنازلات، أو حتى المحاولات الأمريكية والأوروبية ومحاولات "اللجنة الرباعية" على حد سواء. فالحكومة الإسرائيلية الحالية ما زالت ترفض الإجابة على عديد الأسئلة حول القضايا المركزية التي تعطل استئناف عملية التسوية، وفي مقدمتها وقف الاستعمار (الاستيطان) الذي تصاعدت وتيرته مؤخراً، لاسيما في مدينة القدس ومحيطها، والاعتراف بحدود 1967، والالتزام بإطلاق سراح الأسرى. وبعيداً عن كون الرسالة الفلسطينية هدفت في الأساس إلى وضع المسؤولين الإسرائيليين أمام مسؤولياتهم حيال عملية التسوية، أو أنها الفرصة الأخيرة، أو حتى كما اعتبر البعض أنها "محاولة استجداء من السلطة لإنقاذ نفسها من المأزق الذي وصلت إليه"، فقد بات من الحكمة الآن العودة إلى استراتيجية التوجه نحو الجمعية العامة ومجلس الأمن ومؤسسات الأممالمتحدة الأخرى، سعياً وراء عضوية فلسطين الكاملة في المنظمة الدولية، وليس الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فما أكدته الرسالة آنفة الذكر هو أن العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية لا يمكن أن تستمر كما في السابق. فالعالم يشهد مخاضاً عسيراً تأتي في طليعته "الحركات" العربية التي تؤثر على تطورات المشهد الفلسطيني والإسرائيلي وحتى الإقليمي على المدى القريب. ففي ظل هذا المخاض، باتت إسرائيل أكثر عزلة من أي وقت مضى، متوجسة مما ستواجهه في المستقبل. كما يجب أن لا ننسى أن توجه منظمة التحرير الفلسطينية بطلب الانضمام إلى الأممالمتحدة في سبتمبر 2011 شكل حدثاً مهماً ومحاولةً لوضع معادلة جديدة لآليات حل الصراع وفك جمود عملية التسوية بعد أعوام طويلة من المفاوضات العبثية. وفي كلمته عشية الذكرى ال 64 للنكبة، أكد عباس أن "المساعي الفلسطينية في الأممالمتحدة ستتواصل، سواء للحصول على دولة كاملة العضوية أو كدولة غير عضو في الأممالمتحدة"، مضيفاً أنه "كان بالإمكان الحصول على العضوية الكاملة في الأممالمتحدة لولا الضغوط التي مورست على عدد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، لكن مساعينا ستتواصل للحصول على حقنا المشروع سواء كدولة كاملة العضوية أو كدولة غير عضو في الأممالمتحدة". ورغم أن المعركة الدبلوماسية التي رافقت تقديم الطلب في سبتمبر الماضي، سواء من الطرف الفلسطيني الذي حاول إقناع بعض الدول بالتصويت لصالح القرار، أو من الطرف الإسرائيلي الذي سعى إلى إجهاضه بدعم من الولاياتالمتحدة، فقد استطاع الفلسطينيون حشد تأييد شعبي لخطوتهم هذه. وتأسيساً على ذلك، ولجني الثمار، لابد من خطوات سريعة، وإلا فستشعر إسرائيل بالانتصار بسبب تعرقل هذا المسعى مع استمرارها في سياسات فرض الأمر الواقع على الأرض، خاصة في ظل الانشغال الأمريكي بالانتخابات الرئاسية وانشغال أوروبا بمشاكلها الاقتصادية الفادحة، ناهيك عن انشغال العالم العربي ب "الحركات" التي تجتاح مناطق فيه. "لقد تزايدت قناعة المجتمع الدولي بأن إسرائيل تتحمل مسؤولية انسداد أفق عملية التسوية برفضها الوقف الشامل للنشاطات الاستعمارية "الاستيطانية" والتفاوض على أساس حدود 1967، وأنه من العبث التفاوض على الحدود بينما يعمل الاحتلال على رسم وفرض الحدود التي تلبي أهدافه التوسعية وعبر طرح فكرة الدولة ذات الحدود المؤقتة التي رفضناها ونؤكد مجدداً رفضها". إن كل ما سبق هو كلام عباس نفسه في ظل تعنت إسرائيلي صريح وواضح، مع وجود شعب عازم على المضي قدماً نحو الاستقلال وإنهاء الاحتلال، وإحقاق الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها الحق في تقرير المصير، وتجسيد إقامة دولة فلسطين المستقلة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم (التي شردوا عنها منذ 64 عاماً) وفق قرار الأممالمتحدة 194... فما الذي يريده الرافضون للتوجه الفلسطيني هذا إذن؟! منظمة التحرير الفلسطينية (الموحدة فيما نرجو)، هي القادرة على إبقاء شعبها في دائرة الأمل، وإثبات بأنه في حال فشل قرار بعينه فإن لدى صانع القرار الفلسطيني قرارات أخرى بديلة. لذا، على صانع القرار الفلسطيني أن يتذكر بأنه رغم فشل منظمة التحرير في إصدار قرار العضوية في سبتمبر الماضي، نتيجة لعدم اكتمال النصاب القانوني، إلا أنها نجحت في إبراز قدرتها على فتح طرق وقنوات جديدة لعملية التسوية مع قدرتها على جمع دعم عربي ودولي للقضية الفلسطينية. الخطوة المطلوبة الآن، فيما أجمعت عليه سائر القوى الوطنية الفلسطينية، هي التمسك بقرارات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فيما يتصل بعدم العودة إلى أي لقاءات أو مفاوضات قبل وقف "الاستيطان"، وطالما أنه ليس ثمة مرجعية واضحة تستند إلى قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، وضرورة عودة "منظمة التحرير" إلى الاستراتيجية الوطنية الموحدة الجامعة بكل عناوينها، والمطالبة بمؤتمر دولي للسلام تحت رعاية الأممالمتحدة يلزم حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالانصياع لتطبيق قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي. وختاماً، كان من المحبذ لو جرى تبني السلطة الوطنية سياسة شاملة ودائمة للتعامل مع الأممالمتحدة ومنظماتها وأجهزتها المختلفة، سواء قبيل أو بعيد الحصول على عضوية "اليونسكو" التي مثلت دَفعة كبيرة لمثل هذه الجهود الفلسطينية، خاصة وأن العالم منشغل الآن بمشاكل أخرى ربما يراها أكثر أهمية: تبعات "الحركات" العربية، وعلى رأسها الحراك في سوريا، والملف النووي الإيراني... وهي مشاكل تجعل القضية الفلسطينية تبدو "معركة جانبية" لا وقت لها في أجندة مجلس الأمن الدولي. وقطعاً، هذا هو بالضبط ما لا يريده أي منا. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية