زيادة مستمرة في اتجاه واحد لا يعرف التراجع.. هكذا تعودنا خلال الثلاثين عاما الأخيرة في أسعار أراضي البناء في مصر.. زيادة لا تقبل النقصان والنتيجة انتقال العدوي إلي أسعار العقارات لتصاب بالجنون فالأرقام مخيفة وأزمة الإسكان أصبحت مرضا لا تصلح معه جميع الحلول علي الإطلاق.. وبالرغم من أنه خلال النصف الأول من القرن الماضي كانت الأسعار ترتفع وتنخفض بشكل متناوب إلا أنه ومع النهضة العمرانية التي شهدتها مصر بعد قيام الثورة.. وما أعقبها من بناء السد العالي وزيادة الطلب علي الحديد والاسمنت مما أدي إلي ارتفاع أسعار أراضي البناء ولكن بصورة ضئيلة قامت في أعقابها الدولة بالتدخل وتحديد القيمة الايجارية للمساكن. وفي السبعينات شهد مسلسل 'أسعار الأراضي' سيناريو مختلفا عن سابقيه فقد عرف معني الصعود وفقد مؤشر الهبوط تماما وتوالت القفزات في الأسعار وإن اختلفت حدتها من مرة إلي أخري ولم تعرف بين منطقة شعبية أو راقية بل أصيبت بالجنون دون ترويض وانتقل المرض سريعا إلي المدن الجديدة حيث فاقت الزيادة بها الزيادة في المدن القديمة والدليل علي ذلك انه في مدينة 6 أكتوبر كان سعر المتر المربع منذ 15 عاما يتراوح بين 18 25 جنيها وأصبح حاليا يتراوح ما بين 1000 إلي 2500 متر وفي مدينة الشيخ زايد ارتفع من 7 جنيهات عام 1980 إلي 2000 حاليا.
وقد تحولت تلك اللعبة إلي تجارة ومهنة اتجه إليها البعض ووجدوها فرصة لجني المكاسب وعقد الصفقات، لذا ظهرت فئة جديدة عرفت باسم 'السماسرة' أو تجار الأراضي.. والتي تحولت إلي مافيا وظهرت مصطلحات عدة أبرزها 'التسقيع' والتي تعني شراء الأراضي بسعر معين ثم تركها دون استخدامها لفترة طويلة انتظارا لارتفاع سعرها وبيعها بعد ذلك والفوز بخالص الربح من البيع والشراء. وكانت النتيجة تشويه سوق العقارات وإصابته بالأمراض المستعصية وعدم إتاحة الفرصة للاستثمار الجاد الحقيقي في هذا المجال واتسعت الثقوب في سوق العقارات وأصبح الحل يتطلب اجراءات حاسمة وجذرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خاصة أن مصر بحاجة إلي نهضة شاملة، وخاصة في المدن الجديدة.. وبالفعل تفتق ذهن المسئولين بوزارة الإسكان مؤخرا عن اتباع نظام 'المزايدات' في بيع الأراضي وخاصة في المدن الجديدة وتحديدا القاهرةالجديدة وأكتوبر وزايد والشروق وبالفعل تم بيع ما يقرب من 5 آلاف فدان تدر دخلا يصل نحو 614،17 مليار جنيه وتعد تلك الصفقة هي الأكبر في تاريخ الوزارة في العائد حيث تري وزارة الإسكان ان هذا الطريق هو الأقرب للواقع في استغلال أراضي الدولة بعد توزيعها بنظام التخصيص طيلة السنوات الماضية التي جني خلالها المقربون وأصحاب الحظوة والنفوذ الملايين دون رقيب.
جدل شديد تلك الطريقة وهذا الأسلوب ثار حوله جدل شديد بين مؤيد ومشجع له ويراها خطوة علي الطريق الصحيح ومعالجة لأخطاء الماضي.. ورافض بشدة ويراها انها تعني وضع البنزين علي نار الأسعار وستعمل علي استغلالها أكثر خلال الفترة القادمة.. وهو ما يهدد بضياع فرص محدودي الدخل في الحصول علي شقة بسعر معقول 'ومهاود' في ظل هذا الفكر الاستثماري الرأسمالي للوزارة من خلال نظام القرعة والمزايدة العلنية وما يتردد حول إتاحة الفرصة للمستثمرين العرب علي حساب المصريين. لغة الواقع هي الحقيقة المجردة بعيدا عن التصريحات وأطراف الجدل.. وجولة الأخبار كشفت عن التطورات التي نشأت في أعقاب اتباع نظام المزادات العلنية وتحديدا في مدينة القاهرةالجديدة وهي أحدث المواليد العمرانية. في هذه المدينة المشهد يختلف كثيرا عن مثيلاتها من المدن الجديدة.. فالعمران يشق الصحراء بقوة ويحطم بعنف صمودها وصمتها الذي استمر لآلاف السنين.. الغزو العمراني لم يترك امتدادا من امتدادات المدينة إلا واقتحمها.. باختصار المنظر في مدينة القاهرةالجديدة.. يفرح.. لكن كما يقولون دائما 'الحلو ميكملش'.. فالعمران الذي انار جوانب المدينة وبالتحديد التجمع الخامس منها كان حكرا في معظمه علي الأثرياء فقط.. فالفيلات الضخمة زحفت بقوة في كل مكان.. والعمارات المميزة انتشرت وعلت في أركان المدينة وقلبها.. معني ذلك أنه لا مكان هناك للشباب أو محدودي الدخل!.. محمود عبدالحليم أحد شباب المدينة يعلق علي ذلك قائلا: ليس هكذا بالضبط فهناك بلوكات قديمة في المدينة لشباب الخريجين وهناك عمارات حديثة نسبيا خصصت لهم.. لكن الغالبية العظمي للأثرياء فقط.. بل يمكننا القول ان القاهرةالجديدة أصبحت المكان الأهم للمستثمرين وراغبي الربح السريع.. ولذلك اسبابه فالخدمات متوافرة بشكل جيد ومداخل المدينة ومخارجها تجعلها أقرب للقاهرة من أي مكان اخر فهي علي بعد دقائق من مدينة نصر وكذلك المعادي أو الطريق الدائري والأهم من ذلك هو الارتفاع المضطرد والمستمر لأسعار الأراضي بها خاصة بعد نظام البيع بالمزاد التي أقرته وزارة الإسكان هنا والذي أدي لتضاعف الأسعار وجعل اقتراب الشباب أو محدودي الدخل أو حتي متوسطي الدخل ممنوعا تماما والمشكلة الأكبر تكمن في انتقال عدوي ارتفاع الأسعار إلي بقية المدن الجديدة وهي الأمل الوحيد بالنسبة للشباب.
ارتفاع جنوني
بدا لنا من خلال جولتنا في المدينةالجديدة وحديثنا مع سكانها ان التخوف من ارتفاع أسعار الأراضي والشقق هو الحديث الأكثر تداولا هناك.. فبسبب مزادات وزارة الإسكان وصلت أسعار الأراضي إلي حدود غير متوقعة.. وتباري التجار في شراء أكبر قدر من المساحات لتسقيعها.. ثم بيعها خلال الشهور القادمة والتي من المتوقع ان تشهد ارتفاعا كبيرا في أسعار أراضي تلك المدينة. الأرقام التي سردها لنا عامر جعفر، مندوب تسويق بأحد مكاتب التسويق العقاري بالمدينة تشير إلي تضاعف أسعار الأراضي في الأسابيع القليلة الماضية.. خصوصا بعد مزادات الوزارة فسعر المتر الواحد في حي النرجس مثلا وصل إلي 3 آلاف جنيه وكان يباع منذ 4 شهور ب 1400 جنيه!.. نفس الأمر بالنسبة لحي الياسمين الذي اقترب فيه سعر المتر من 2500 بعد أن كان يباع 1200 جنيه!.. وارتفعت الأسعار في المناطق معدومة الخدمات من 200 جنيه للمتر إلي 500 جنيه للمتر الواحد. عاطف شكري مدير أحد مكاتب الاستثمار العقاري يبرر ذلك بقيام الحكومة بتحويل المدن الجديدة من شكلها السكني ذي البعد الاجتماعي إلي مناطق للاستثمار العقاري ،فالتجار الآن يتبارون لشراء أراض بأي أسعار.. وحركة الشراء زادت خلال الأسابيع القليلة الماضية بشكل كبير بخلاف حركة البيع التي انخفضت بسبب ارتفاع الأسعار. ويتساءل شكري إذا كانت الحكومة رفعت سعر المتر لأكثر من 4 آلاف جنيه فالطبيعي ان يستغل التجار ذلك ليرفعوا أسعارهم وفي النهاية سيتحمل المواطن البسيط تلك الزيادات.
رقابة غائبة
نعم.. لا توجد رقابة وهناك فوضي تحتاج إلي وقفة.. هذا ما يراه خالد المحمدي بأحد مكاتب الاستثمار العقاري هناك.. ويضيف ان الدولة باعت بأسعار مرتفعة للغاية.. وجاء بيعها بنظام الأفدنة لمستثمرين كبار.. واعتقد انه لا توجد علاقة بين البيع بالأفدنة وطريقة القطعة التي تشتري بها شركات العقارات.. أو التجار.. لكن التجار عندما سمعوا عن المليارات التي باعت بها الحكومة الأراضي هناك استغلوا الموقف ورفعوا الأسعار.. وللعلم ان أسعار العقارات إذا ارتفعت لا تنخفض وهذا مكمن الخطورة. محمد فايد بإحدي الشركات العقارية في القاهرةالجديدة يؤكد ان نظام بيع الأراضي في المدن الجديدة بطريقة 'القرعة يحتاج إلي إعادة نظر.. فالمشتري يشتري الأرض ثم يقوم ببيعها مرة أخري بعد أن يطلب زيادة تقدر بثلاثة أضعاف سعرها. وتلك هي قراءة علي أرض الواقع من خلال رصد الحال في مدينة القاهرةالجديدة؟!
ايجابيات كثيرة
ولكن ما هو رد وزارة الإسكان علي تلك التساؤلات والاستفسارات وما مبرراتها لاستخدامها تلك الطريقة في بيع الأراضي؟ يجيب المهندس محمد الدمرداش مساعد وزير الإسكان مؤكدا ان ايجابيات نظام المزايدات العلنية والقرعة تفوق بكثير السلبيات وبنظرة واقعية للأسعار التي تم بيع الأراضي بها نجد أنها ليست بمبالغ فيها علي الإطلاق بالعكس فهي أسعار حقيقية.. فالأسعار القديمة كانت تتراوح ما بين 200 300 جنيه إلا انها كانت تتداول في السوق بسعر ألف جنيه فأكثر للمتر والفارق في السعر يذهب إلي جيب تجار الأراضي.. والآن الوضع اختلف وأصبح الفارق يذهب للدولة ويتم البيع بسعر السوق وتقوم بالاستفادة من الربح في الصرف علي الخدمات الجماهيرية والتعليم والصحة وغيرها من أوجه الصرف التي يستفيد منها المواطن المصري وبالنسبة لسعر المتر الذي وصل ل 2500 فينحصر فقط في 80 فدانا بالقاهرةالجديدة وتم بيعها بنظام المزايدة العلنية وهي مخصصة للاستخدام التجاري وليس لها أي علاقة بالإسكان من قريب أو بعيد. ونفي أيضا مساعد الوزير أن تكون تلك المزايدات سببت ارتفاعا في أسعار الأراضي حيث ان الأراضي التي تم بيعها مخصصة للاستثمار وليست لها علاقة بما توفره الدولة من أراض للمواطنين سواء عن طريق القرعة العلنية أو مشروع مبارك للإسكان أو مشروع ابن بيتك. مضيفا أن الدولة وضعت ضمانات عدة من أجل حرية الاستفادة من الأراضي وعدم تسقيعها أو المضاربة علي سعرها لأن المستثمرين ملتزمون بخطة زمنية لتنفيذ مشروعاتهم تتراوح ما بين 7 10 سنوات وإذا لم يتم خلالها تنفيذ المشروع يتم سحب الأرض فورا. ويؤكد المهندس محمد الدمرداش ان ستشهد الفترة القادمة انتعاشا ملحوظا ونموا وازدهارا وحرصا من المستثمرين علي دخول مزايدات الأراضي خاصة من المتوقع ضخ 90 مليار جنيه حجم المشروعات المقرر إنشاؤها علي تلك الأراضي حيث من المعروف ان الأراضي تمثل 15 % من حجم أي مشروع وتلك الأموال تدور في إطار أكثر من 90 صناعة بخلاف ما توفره من فرص عمل للشباب.
أرباح خيالية
وأشار مساعد الوزير إلي أن السبب في الارتفاع الذي شهدته أراضي المدن الجديدة هم السماسرة الذين جنوا أرباحا خالية من رفع أسعار أراضي البناء في المدن الجديدة والذين سيؤدي النظام الجديد إلي تقليص وجودهم وتحرص وزارة الإسكان علي التصدي لهم من خلال طرح مساحات أكبر من الأراضي حتي يزيد العرض فينخفض السعر لذا طرحت الوزارة خلال الشهور الأخيرة 35 ألف قطعة أرض في المدن الجديدة وبأسعار معقولة للقضاء علي اللعبة التي تمارسها مافيا السماسرة والتي تقوم باستغلال أصحاب بعض الأراضي في المدن الجديدة الذين يرغبون في بيعها فيلجأون إلي السماسرة ليساعدوهم في بيعها مما يجعلهم يتحكمون في سعر البيع فأدي ذلك إلي القفز بالسعر إلي نسب خيالية.. وانعكس ذلك علي أسعار العقارات في مصر التي ارتفعت بشكل كبير يزيد علي ضعف المعدل العالمي حيث ان معدل أسعار العقارات في مصر يزيد سنويا بنسبة 14 % بينما زيادته العالمية تتراوح ما بين 5 7 % إلا ان هذا الحال لن يدوم ومن المتوقع انخفاض أعداد السماسرة خلال الشهور الثلاثة القادمة وستقل أسعار الأراضي بشكل ملحوظ وخاصة مع استقرار الأوضاع داخل المدن الجديدة مع ربطها بالمناطق العمرانية القديمة. ويؤكد المهندس محمد الدمرداش ان المزاد تم علي 5 آلاف فدان فقط ولن يؤثر علي سوق الإسكان علي الإطلاق.. وسيسهل علي تشجيع وجذب رؤوس الأموال العربية للاستثمار العقاري في مصر بعد أن وجدوا المناخ المناسب الذي يشجعهم علي ذلك والدليل دخول 32 شركة عالمية وعربية ومصرية زمام المنافسة للفوز بالمزاد وفازت بها صاحبة أعلي 3 أسعار وهي لثلاث شركة تمثل التكتلات العربية الكبري والتي ترغب في استثمار أموالها في السوق المصري الذي تتميز بوجود أراض صالحة للاستثمار. وهذا لا يعني اغفالنا الاستثمار في طرح الوحدات السكنية وخاصة لمحدودي الدخل والإسكان العائلي، فالوزارة ملتزمة بتنفيذ ما تضمنه البرنامج الانتخابي للرئيس بتوفير نصف مليون وحدة سكنية خلال 6 سنوات من خلال 7 محاور وذلك بمنح لا ترد وتم تسليم الأراضي والمرافق مجانا لمحدودي الدخل. وبالنسبة للإسكان العائلي فقد تم طرح 2500 فدان مستوي المدن لبناء وحدات سكنية لاتزيد علي 100 متر و50 % من المشروع لبناء وحدات أقل من 100 متر بالإضافة إلي المشروع القومي للإسكان. كما قامت الوزارة بطرح أراض للإسكان العائلي وتم عقد 3 بنظام القرعة وطرحنا 35 ألف قطعة أرض وخلال الشهر الحالي طرحنا 100 وحدة للإسكان العائلي والمتوسط.. وهو وما يعني ان الوزارة لن تغفل فئة محدودي الدخل علي الإطلاق ولايزال مجال الاستثمار العقاري متسما ليشمل خطوات أخري خلال الفترة القادمة خاصة وأن ما تم بيعه مؤخرا 6 قطع أراض مساحتها لا تزيد علي 5،2 % من سوق أراضي البناء ولا تمثل سوي رقم ضئيل من اجمالي 200 ألف فدان في السوق.