في 13 أبريل 1975 انطلقت شرارة الحرب الأهلية في لبنان، التي استمرت فصولها وأحداثها وجولاتها حتى عام 1989 عند توقيع "اتفاق الطائف" في سياق اتفاق إقليمي دولي، وتوقفت لاحقاً في 13 تشرين الأول 1990 عند إزالة تمرّد العماد ميشال عون وإزاحته من قصر بعبدا على أيدي القوات السورية بعد " الطائف". في البداية اعتقد اللبنانيون أن حادثاً وقع في عين الرمانة بين فلسطينيين ولبنانيين هو في سياق الحوادث التي كانت تحدث منذ سنوات وتحديداً بعد هزيمة العرب في عام 67 وبشكل أخص بعد 1969 وتوقيع اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية والقيادة الفلسطينية برعاية مصرية. وقعت اشتباكات في ذلك اليوم، ثم هدأت لأيام، طبعاً وتيرة الخطاب والتحدي ارتفعت، وعادت الاشتباكات، وبدأت جولات الحرب بين الجولة والجولة كانت فترات من الهدوء والمساعي السياسية الداخلية والعربية والدولية. ولكن على الأرض وبسبب هذه الجولات كان التسليح على قدم وساق. كان ثمة طرفان مسلحان. الجيش اللبناني النظامي الذي كان يستخدم ضد الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين (المعارضة)، والفلسطينيون الذين كانوا قد بدأوا بعد عام 67 بالتسلح، ثم قيل لهم رسمياً من قبل الدولة: "ليس بإمكاننا حمايتكم من إسرائيل. دبّروا رؤوسكم". فذهبوا إلى التسلح والحماية الذاتية وتجاوزوا بعد ذلك الحماية الذاتية ليصبح سلاحهم عنصراً من عناصر الأزمة في البلد. المهم بدأت الحرب بشرارة، ثم صارت جولات. وفي استذكار سريع، ترد أمامنا أسماء موفدين فرنسيين وأمريكيين ودوليين وعرب وأمميين جاءوا إلى لبنان حاملين مبادرات وأفكاراً كانت تؤدي إلى تهدئة، أو إلى هدنة، لتنطلق بعدها جولة جديدة من العنف فيأتي موفدون جدد وبأفكار جديدة. وخلال الجولات، كانت ترتكب مجازر فردية وجماعية، وكنا أمام سبت أسود وأيام صعبة وفعل ورد فعل وتهجير وتهجير مضاد، وقتل على الهوية، واحتلال مواقع وكانت النفوس تشحن بالحقد. والتعبئة في كل موقع قائمة مستمرة والتسلح على قدم وساق. حتى أصبح لكل فريق جيشه النظامي المتكامل. بعد أن كانت أحداث الجولات الأولى ومشاهدها تظهر مسلحين في الشوارع غير متدربين وغير مجهزين. صورتهم صورة ميليشيات أو أفراد يتحركون هنا وهناك. يمارسون القنص والقتل وبطبيعة الحال كان العبث بكل شيء ، سرقة ونهباً وإحراقاً لمحال ومواقع وإقفال معابر وحصار مناطق وعمليات تهريب داخل البلد ومن خارجه، من كل خارجه إلى كل داخله. من سوريا وإسرائيل في المحيط القريب وفي البحر من العالم البعيد. طرحت أفكار واتخذت قرارات عربية ودولية، جاءت قوات عربية وتراكمت الأفكار والحلول السياسية. وكان الفريق الذي يشعر بأنه متقدم سياسياً في الداخل والخارج – من خلال زعمائه وحلفائه – يرفض المبادرات أو يناور أو يستقوي. فتضيع لحظة أمل أو لحظة حل ممكن. ويردّ عليه الفريق الثاني بالطريقة ذاتها عندما يشعر بالشعور ذاته. طال الزمن. توسعت دائرة الحرب الأهلية. دمّر البلد واقتصاده. ثم تغير نظامه. في كل هذه العمليات كان لسوريا الدور الأهم في التدخل وإدارة شؤون اللعبة وضبط العمليات العسكرية والتوازنات على إيقاع المفاوضات معها حول شؤون المنطقة ودورها، ونفوذها في لبنان. كانت هي حجر الزاوية والأساس في كل قرار، لم يكن القرار في لبنان، كان بين أيدي الكبار الإقليميين والدوليين. كان لبنان ساحة، وكان البازار مربوطاً بالموضوع الفلسطيني، وكل شيء في لبنان يتم على قياس كيفية التعامل مع الحل الفلسطيني وما رافقه في المنطقة من اتفاقية سيناء إلى كامب ديفيد إلى مفاوضات عربية إسرائيلية، وسورية إسرائيلية. أصبح الوضع معقداً. كل الصراعات على أرضنا، لعبة الأنظمة في وجه بعضها، ولعبة الدول في سياق مصالحها. إذا كان تفاهم، حصل على حسابنا وإذا كان تصادم حصل على أرضنا. لا نحن عدنا قادرين على التراجع. ولا غيرنا قادر على التوقف والتراجع، حتى جاءت اللحظة الإقليمية الدولية وكان اتفاق الطائف الذي فوّض سوريا عملياً بالحل. التفويض تعثر، جاء احتلال العراق للكويت انتظر الجميع موافقة ومشاركة سوريا. اتخذ حافظ الأسد القرار، شارك، فكان له لبنان وإزاحة ميشال عون حتى لو اضطر الأمر إلى التدخل العسكري بالطيران، وهذا ما حصل. إذاً، سوريا شاركت أدارت استهلكت إدارات خارجية واجهت إرادات وإدارات داخلية. لعبت في كل الاتجاه. ومع كل الأطراف وعلى كل الأطراف وبقيت وحيدة نظمت الاتفاقات لمصلحتها. أدارت الخلافات ثم نظمت الاتفاقات لمصلحتها. في 12 أبريل 2012 سوريا هي الساحة، فبعد عام ونيف من الأحداث، مبادرة لعنان بعد مبادرة الجامعة العربية التي قادها مصطفى الدابي وانسحب. نفس السيناريو، نفس الكلام، جولات. هدوء نسبي، ثم دمار مبرمج. ثم اتساع لدائرة المواجهات، اقتلاع من مناطق، قتل على الهوية، تهجير، وضع اقتصادي سيء. موفدون عرب ودوليون ومحاور إقليمية ودولية وحسابات أنظمة ودول. عنان يدعو قادة الدول المؤثرة على الطرفين للضغط عليهما لوقف العنف، ويقول هذه هي الخطة. لافروف: "إما نجاح الخطة أو الحرب الأهلية". وقد دخلنا في الحرب. وبغض النظرعن الخلفيات والحسابات، فإن المشهد اللبناني يتكرر جولات، وجولات وبينها مبادرات واتصالات. قد تتخذ خطوات وتشكل هيئات، وربما حكومات، لكن سوريا في دائرة الحرب الأهلية. الدولة تتآكل، الثقة تكاد تكون غير موجودة. الحقد يزداد، الحالة المذهبية خطيرة، حتى الجيش السوري صورته مهتزة. لم يعد هذا الجيش في نظر كثيرين في الداخل والخارج، الجيش الذي يقاتل إسرائيل ويمارس عقيدته القتالية في هذا الاتجاه. جيش يدمّر المدن والقرى والبلدات. المشاهد تظهر وكأن هذه القرى والدمار فيها هو نتاج حرب بين الجيش السوري والجيش الإسرائيلي. صور الضحايا مرعبة في المجازر الجماعية. الحديث عن عمليات القتل والإبادة والاغتصاب مرعب. وإذا كان ثمة من يجب أن يعتبر من التجربة اللبنانية فهو النظام في سوريا. لكنه وقع فيها وأوقع سوريا فيها. لم يعد القرار محلياً، لم يعد القرار في سوريا. والمعارضة ستسلّح وتجهز، ومظهر الميليشيا اليوم سيكون مختلفاً غداً. حتى الجيش سيتعرض لإنقسامات أكبر. الجيش اللبناني تركيبته مختلفة جداً عن الجيش العربي السوري، ومع ذلك تأخر انقسامه كثيراً. فلا غرابة في أن يتأخر الإنقسام الكبير في الجيش السوري. لكن التجربة التي عشناها ومسار الأحداث يؤكد حصول ذلك لاحقاً ما دام الحل السياسي قد أسقط. وما دامت المعركة قامت من الأساس على قاعدة: "إما نحن وإما هم". وكان الخيار العسكري الأمني في وجه الناس. ليس ثمة حل سريع، وسنكون أمام جولات من العنف أقوى وأشد في انتظار اللحظة الإقليمية والدولية التي يحصل فيها توافق بين القوى المؤثرة. وخلال هذا الوقت سيزداد الدمار والخراب ويتراجع الاقتصاد وتضعف الدولة وتسقط الضحايا. سنكون أمام مسلسل طويل من العنف. وستكون الكلفة كبيرة. لا النظام استطاع أن يسقط المعارضة وأن يوقف الناس، وهم لا يملكون شيئاً من السلاح الذي يواجه أسلحة النظام التي تستخدم كلها ضدهم. ولا المعارضة استطاعت أن تسقط النظام بسرعة كما حصل في تونس وليبيا ومصر واليمن، لكن خسائر النظام كبيرة. لم يكن يعترف بمعارضة، ولم يكن يرى أحداً. ومع ذلك استهلكت إمكانات الجيش وطاقاته. وهو ينتقل من مدينة إلى أخرى ولا يحسم. أو يحسم مؤقتاً ويعود إلى المكان ذاته، ولا استطاع إسكات الناس وتوسعت رقعة معارضيه في الخارج والمطالبين بإزاحته وخسر أوراقاً كثيرة ولم ينفتح على أي مبادرة سياسية وتمترس وراء الحل العسكري والأمني ولم يتمكن من الحسم، ثم عاد ليعترف بوجود معارضة ومسلحين في الداخل والخارج، ويطالب بتوقيع رسمي لهم على أي مبادرة. والمعارضة لم تحسم أمرها بعد، ولكن ستصل إلى صيغة، لن تكون فريقاً واحداً، سيكون تنافس، وهذا طبيعي بعد سنوات طويلة من القمع والمنع الذي مورس ضدها. لكن لا النظام سيتراجع ولا المعارضة ستتراجع. إنها 12 أبريل سوريا مثل 13 أبريل لبنان، خطيئة النظام أنه لم يتدارك الأمر. وهو الخبير في تجربة أبريل لبنان. الأمور لا يمكن أن تعود إلى الوراء، حرام الشعب السوري وما يتعرض له ، وسوريا لا تستحق هذه الطريقة من التعاطي والإدارة وهذه العقلية. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية