غالبا ما قال العرب، قبل العام 1975 وبعده، وفي الفترة بين العامين 2005 و2007 تحديداً، ان قضية لبنان هي قضيتهم في الدرجة الأولى، وأنهم لن يدخروا جهداً لجعل اللبنانيين يتوصلون الى تسوية في ما بينهم تعيد البلد الى حياته الطبيعية. لكن قضية لبنان، مثلها مثل قضية فلسطين التي كانت ولا تزال قضية العرب الأولى، حتى لا ننسى قضاياهم الأخرى في العراق والسودان والصحراء الغربية والصومال وأخيراً قضية الأمن في الخليج العربي بعد أن بدأت أدخنة المفاعلات النووية وأدخنة مفاعيل سياسية أخرى تهب من شاطئه الشرقي من دون حل أو حتى أفق حل... مجرد عناوين على جداول عمل اللقاءات الثنائية والثلاثية والجامعة بين قادة النظام العربي من دون إحراز تقدم، لا لعجز عن الإجماع - أو حتى التوافق - حولها فقط، بل أساساً لمواصلة أطراف في هذا النظام التدخل فيها خدمة لمصالح وأهداف وغايات لا تمت الى القضايا المشار اليها بصلة. يمكن التشديد على هذا الزعم وإثباته بالشواهد والدلائل هنا وهناك وهنالك على رغم الأوهام الدائمة عن «المؤامرة» - الأميركية والغربية أساساً - على الأمة العربية وثرواتها وشعوبها ومستقبلها وموقع المنطقة الاستراتيجي... وأخيراً على الأمة الإسلامية كلها. ذلك أنه اذا كان صحيحاً، وهو صحيح وإن لم يكن مستغرباً، أن يعمل الأعداء (الولاياتالمتحدة وإسرائيل، كي لا نتهم بالتواطؤ والعمالة!) على مفاقمة هذه القضايا وإفشال أية مساعي حل عربية - على افتراض وجودها - فالصحيح أيضاً، ولكن المستغرب بالطبع أن يشكل تدخل أطراف النظام العربي والأشقاء، فضلاً عن الأصدقاء، أحد العوامل الجوهرية جداً في ما وصلت اليه الأمور... فيها كلها أو في بعضها على الأقل. مناسبة الكلام الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة العربية في القاهرة في عنوان بحث الأزمة المستمرة في لبنان منذ حوالى عامين بعد اجتماعين سابقين عقدا للهدف ذاته وأديا الى ما يعرف اللبنانيون والعرب جيداً. وأن يكون لبنان بالذات هو العنوان، على أهمية وجدية وخطورة العناوين الأخرى، فمن شأن ذلك أن يجعل من اجتماع القاهرة موعداً محورياً مع التاريخ، ومن التاريخ العربي الحديث، لأسباب متعددة: أولاً: اذا كان للعرب ما يكثرون الحديث عنه من أمل ووعد بالحداثة، بما هي حرية رأي وتعبير وتعلم وتعليم واعتراف بالآخر وعيش مشترك بين المكونات الاجتماعية - الطوائف والأجناس والأعراق - فما عليهم الا أن يحافظوا على مختبر الحداثة هذا، على عيوبه التي تبدو كثيرة حالياً، وأن يرعوا نماءه وتطوره بماء العيون لا أن يعملوا معاولهم، أو يدعوا معاول بعضهم تعمل، هدماً وتحطيماً لبنيانه حجراً بعد حجر. أكثر من ذلك، فإذا كان للأمة الإسلامية الأوسع من المنطقة العربية، وهي التي تضربها منذ أعوام رياح عاتية من التطرف بل العدمية، أن تعود من كهوف التاريخ لتدخل عملياً العصر وتشكل - كما شكلت في الماضي - دعامة قوية في بنيانه العلمي والحضاري والإنساني، فضلاً عن أن تدحض التهم المساقة ضدها بالإرهاب والاحتراب الدائم، فلا يكفيها أن تقف مدافعة عن نفسها وعن معتقدها الديني في الإعلام (ولا طبعاً أن تقدم تنازلات سياسية لمطلق الاتهامات) بل أن تجسد التسامح، الذي هو في أساس الإسلام، نموذجاً حياً وناطقاً وفاعلاً على الأرض. ولا حاجة الى القول، للعرب أولاً وللمسلمين في العالم ثانياً، ان في لبنان ما يفتح الباب واسعاً أمام مثل هذا التجسيد. ثانياً: ان العالم العربي، وكل دولة من دوله على حدة، معرض لما يتعرض له لبنان منذ سنوات من «تدخلات» الأشقاء والأصدقاء والغيارى بحيث يتم تحويله الى ساحة، بل ساحات، مفتوحة لتصفية الحسابات وتحقيق الأهداف الخاصة - الإمبراطورية، الكبيرة منها والصغيرة – التي لا علاقة لها بحقوق المواطنين ومصالحهم الحقيقية ولا بتطلعاتهم للحرية والمنعة والعيش الكريم... ولا حتماً بتحرر بلدانهم وتحريرها من الاحتلال والتبعية. ولا حاجة الى القول، هنا أيضاً، ان في داخل كل دولة من دول العالم العربي من «منافذ» للتدخل والتلاعب بالنسيج الاجتماعي الداخلي (الطائفي والمذهبي والقبلي والاقتصادي - الاجتماعي) ما يسمح بجعل تلك الدولة لبنان ثانياً بكل ما تعنيه كلمة «اللبننة» من معنى الاحتراب الأهلي الذي لا نهاية له. ثالثا ً: ان من شأن الأعراف السياسية والديبلوماسية، والعلاقات بين الدول، أن تحول دون تورط دولة ما أو رابطة دول (جامعة الدول العربية في هذه الحالة) في اشتباك علني مع دولة أخرى حول طبيعة وطرائق التعامل مع دولة ثالثة. لكن ما انتهت اليه الحال بين لبنان من جهة وسورية وإيران من جهة ثانية، وحشر الشعب اللبناني بين سندان «الفراغ» في موقع رأس الدولة ومطرقة «التهديد بالزوال» من الوجود، والإفشال المبرمج لمساعي التسوية الكثيرة داخلياً وعربياً ودولياً، هو ما حتم الدعوة (أخيراً؟!) الى الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب. ومتى؟!، بعد أن دفع ذلك رئيسي دولتين بعيدتين جداً عن لبنان حاولا الدخول على خط أزمته - هما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والرئيس الأميركي جورج بوش - للخروج على الأعراف الديبلوماسية والسياسية كلها واعلان نفاد صبرهما مما قالا انه لا تعاون رئيس دولة عربية شقيقة للبنان، وطبعاً للدول العربية كلها، هو الرئيس السوري بشار الأسد. لهذه الأسباب مجتمعة، وربما لكل سبب منها على حدة، يستحق لبنان في وضعه الحالي أن يكون قضية عربية بامتياز كلي. وبعيداً من «الأخوة» والروابط القومية، يمكن القول ان بقاء لبنان كدولة وشعب، كما زواله، هو بقاء أو زوال لكل دولة عربية على حدة... «من المحيط الهادر الى الخليج الثائر» بحسب الأغنية الشعبية العربية المعروفة.